وليد المصلح
الفقر ومستوى تعليم الأمهات مؤثران أساسيان على نسب تسرب الفتيات
يتنقّل بائعو المناديل الورقية من الأطفال وحاملي المياه لتنظيف زجاج السيارات، من مركبة لأخرى عند تقاطع الدورة في العاصمة بغداد، حيث تتوقف المركبات بانتظار ضوء إشارة المرور الأخضر لتنطلق في وجهتها من جديد.
نهار الصيف الطويل وحرارته الحارقة حتى في ساعات الصباح الأولى لم يثن “عسل” ذات التسع سنوات من التواجد في أكثر الطرق اكتظاظا وهي تزاحم أقرانها من بائعي قناني المياه الباردة لسائقي المركبات.
تعود “عسل” نهاية كل يوم إلى منزلها المتهالك في إحدى مناطق التجاوز في حي ابو دشيىر جنوب بغداد، وفي جعبتها حفنة من الدنانير مما كسبته يداها اليافعتان لإطعام أمها وإخوتها الصغار.
وأنت تدخل إلى بيت الأسرة، يجبرك باب الصفيح الصغير، على الإنحناء عند ولوجك إلى الداخل، وكأنك تنحني تقديرا لكفاح هذه العائلة، وينتابك شعور عميق بالأسى والحزن، لما تعانيه من مرارة الفقر وفقدان الأب.
بقلبٍ مكلوم تحاول عبثاً أمّ الطفلة الصغيرة، إظهار المزيد من الصبر والتجلّد أمام فتاتها المضحية، لكنها لم تتمكن من حبس غصة الألم وهي تحدثنا عن الحرمان الذي أجبرها على أرسال ابنتها للعمل بدلاً من التعليم.
ليست “عسل” الفتاة الأولى ولن تكون الأخيرة، فثمة قصص أخرى كثيرة لفتيات أُكرهن على ترك مقاعد الدراسة ومزاولة المهن اليومية لتأمين لقمة العيش في بلد تزيد نسبة عمالة الأطفال فيه عن 7 من كل 100 طفل وفق منظمة اليونسيف.
معدلات أكبر لتسرب الفتيات
أظهرتحليل البيانات الخاصة بنسب التسرب من المدارس على موقع الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية، للسنوات 2011-2019 تراجع معدّل التسرب الإجمالي من المدارس الإبتدائية خلال التسعة أعوام المنصرمة، ليصل إلى متسربين اثنين من كل 100 طالب خلال 2019، بعد أن كان المعدل يبلغ عشرة متسربين عام 2011.
وتظهر البيانات حصول تقارب نسبي في ارقام تسرب الذكور مع تسرب الإناث بعد ان كان التباين كبيراً بين الفئتين قبل عشر سنوات، إلّا أن الفتيات مازلْنَ يتقدمْنَ الفتية في نسب التسرب بعدة محافظات عراقية.
فنسبة تسرب الذكور في عام 2011 كانت 7 من كل 100 طالب ذكر، مقابل تسرب 13 طالبة من كل 100 من الإناث، لكن الفارق بينهما تقلّص في السنوات الأخيرة، فأصبح يتسرب 2 من كل 100 من الذكور، مقابل تسرب 3 فتيات من كل 100 من الاناث خلال 2019.
مسؤولة التخطيط التربوي في وزارة التربية العراقية “منى خضير” عزت عدم القضاء على التسرب عموما إلى أحداث تشرين عام 2019 وما شهدتها من تظاهرات في عموم مدن العراق أدت لتعطيل العملية التعليمية في غالبية المدارس، فضلا عن الحظر المفروض بسبب جائحة كورونا.
وتعليقاً على تسرب الفتيات، أكدت خضير أن “الوعي المجتمعي في بعض المناطق مازال بدائياً لا يرى في تعليم الإناث أهمية أو ضرورة وذلك ما يجعلهن أكثر عرضة للتسرب وترك الدراسة في سن مبكرة مقارنة بالطلاب الذكور”.
التركيبة الذكورية هي السبب
وترجع المشرفة التربوية “ليلى سلمان” ارتفاع نسبة تسرب الإناث في محافظات وسط وجنوب البلاد الى جانب مناطق الأطراف إلى “التركيبة الذكورية للمجتمع والتقاليد القبلية السائدة في الأرياف وضواحي المدن، التي لا تميل كثيراً لتعليم الفتيات أو توظيفهن، مما يدفعهن إلى التفرغ للعمل في المنازل بغياب القوانين التي تلزم الأهل بإكمال تعليم بناتهم وتحد من تفشي زواج القاصرات، مما زاد من معدلات الأمية لديهن مقارنة بالذكور”.
رغم أن نسبة التسرب الإجمالي للتعليم الابتدائي في محافظات الوسط والجنوب، هي متسربين اثنين من كل 100 طالب، إلا أن بابل ضاعفت من تلك النسبة، متفوقة على باقي المحافظات في عدد التلاميذ العازفين عن المدارس.
ففي مدارس المحافظة نجد أن من بين كل 100 من الذكور هناك 4 يتسربون ويتركون التعليم، مقابل 5 فتيات متسربات من كل 100 فتاة، وهي أعلى نسبة تسرب شهدها العام الدراسي 2019-2018.
يُرجع مدير التخطيط في تربية بابل عماد الموسوي، النسب المرتفعة التي سجلتها مؤشرات التسرب في المحافظة، الى “ضعف المستوى الاقتصادي للعوائل، وانخراط التلاميذ في سوق العمل لسد احتياجات الأُسر”.
يضيف الموسوي الى ذلك السبب “البيئة التعليمية غير الجاذبة والممارسات التربوية الخاطئة، كالعنف المدرسي الذي يسبب الانطواء والعزلة، الى جانب قلة الأبنية المدرسية في القرى والمناطق النائية بالمحافظة”.
وتشير إلاحصاءات أن الطلاب في مرحلة الخامس الابتدائي هم الأكثر عرضة للتسرب مقارنة بباقي المراحل، يأتي من بعدها مرحلة السادس بفارق قليل، فمن بين كل 100 طالب متواجدين في المدارس، هناك 3 ذكور يتسربون في المرحلة الخامسة مقابل 4 متسربات من الإناث، وفق أرقام العام الدراسي 2019-2018.
وعلى العكس من المحافظات التي ترتفع فيها معدلات التسرب مثل بابل ونينوى وكربلاء، فإنها تنخفض في محافظات أخرى لتصل إلى مادون المعدل الإجمالي العام، ففي ديالى نجد أن من بين كل 250 طالبا يوجد متسرب واحد فقط، لتكون بذلك المحافظة الأقل في عدد الأطفال الموجودين خارج المدرسة خلال العام الدراسي 2019-2018.
ويعود ذلك بحسب المشرف التربوي في تربية المحافظة “وليد محمد” إلى دور وتأثير “الشراكة المجتمعية بين إدارات المدارس وأولياء الأمور ومساهمة المنظمات الدولية في إبراز أهمية التعليم والتحاق الأطفال بالمدارس من خلال البرامج التوعوية والتثقيفية، كمنطمة اليونسيف وميرسي كور”.
فتيات الريف والتمييز الاجتماعي
من خلال مقارنة نسب التسرب بين المدن والأرياف، نجد أن من بين كل 25 طالبا، هناك طالبان يتسربان في المناطق الحضرية وثلاثة طلاب في الأرياف، ومقابل كل 10 ذكور متسربين من كل 100 طالب ذكر في الريف، هناك 13 فتاة متسربة من كل 100 فتاة في مدارس الأرياف.
وتكشف البيانات ان فتيات الأرياف حتى اليوم يعانين من عدم التكافؤ والمساواة مع الذكور في نواحي شتى، لعل التعليم أكثرها حساسية وأهمية. ويظهر ذلك جليا من خلال انخفاض نسبة التحاقهنّ بالتعليم الابتدائي في مناطق الأرياف، حيث أن نسبة التحاق الذكور تبلغ 90 طالب من كل 100 من الذكور، بينما تلتحق 87 فتاة من كل 100 فتاة في أحسن الأحوال وفق المسح العنقودي متعدد المؤشرات للعام 2018.
ذلك الاختلاف والتمييز بين الذكور والاناث في الالتحاق بالمدارس، ترجعه مسؤولة التخطيط في وزارة التربية “منى خضير” إلى أن قلة المدارس في القرى والمناطق البعيدة ذات التجمعات السكانية القليلة والاختلاط بين الذكور والاناث في بعضها”.
تقول خضير ان ذلك من “الأسباب الرئيسة التي تثير مخاوف الأهالي وتجعلهم يترددون في إرسال بناتهم إلى المدرسة”، موضحة أن الوزارة “تعمل على إنشاء مدارس كرفانية جديدة لاستقطاب أعداد إضافية من الطلبة، وجعل الدوام فيها نهاري ومسائي لفك الاختلاط بين الذكور والإناث”.
وتعلل الباحثة “نعيمة عبود” رئيسة منظمة البسمة الإنسانية للطفولة، إرتفاع نسب تسرب الفتيات في الأرياف والعشوائيات إلى “تفضيل العوائل للذكور أكثر من الإناث، كونهم قادرين على العمل الشاق والحركة في البيئات القاسية التي لا تستطيع الإناث التواجد فيها”.
إضافة الى إعتبار البعض أن “الفتاة عبء على كاهل الأسرة لايُزاح إلاّ بتزويجها، وذلك ما ضاعف من معاناتهن وحرمانهن من العدالة والحق في التعليم”.
وترى عبود أن “مواقع التواصل الإجتماعي التي تعمل بلا رقابة، والابتزاز الإلكتروني الذي تتعرض له الفتيات يدفع بعضهن الى التسرب وترك الدراسة، وأن النزاعات والتفكك الأسري الذي يصل الى الهجر أو الطلاق، غالبا ماتكون ضحاياه من الفتيات اللاتي تكون فرصهن في الحصول على التعليم ضئيلة أو معدومة”.
الثروة وتعليم الأم عاملان أساسيان
عند الاطلاع على النسب الخاصة بالتسرب من التعليم الابتدائي، نجد ان المستوى المعاشي للعوائل، عامل رئيسي في زيادة أو تحجيم الظاهرة، فمقابل كل 10 ذكور متسربين من ابناء العائلات الفقيرة، هناك 6 ذكور من العائلات متوسطة الدخل، مقابل 3 متسربين من الذكور المنحدرين من عوائل ثرية.
ومقابل كل 17 فتاة متسربة من بنات العوائل الفقيرة، هناك 9 فتيات من عوائلهن متوسطة الدخل، مقابل 4 فتيات من العائلات الثرية. وهذا يُظهر أن الفتيات يتأثّرنَ بالوضع الاقتصادي لعوائلهن أكثر من الذكور، ويتسربْنَ بوتيرة أعلى نسبياً حتى لدى العوائل الثرية.
وهو ما واجهته بائعة الماء “عسل” فمستوى الفقر الذي عانته عائلتها بعد فقدان الأب والمعيل، أجبرها على العمل في الطرقات بعيداً عن طريق المدرسة، فأصبحت مجرد رقم يُضاف لأرقام تسرب الفتيات.
ولا يقل مستوى “تعليم الأم” اهمية وتأثيراً عن عامل الثروة لدى العائلات، في صعود أو هبوط مؤشرات التسرب لدى الأبناء، فكلما ارتفع مستوى تعليم الأمهات انخفض التسرب، ليصل إلى ما دون الثلث مقارنة بالأمهات غير المتعلمات.
فمقابل كل 16 متسرب من الذكور أمهاتهم غير متعلمات، هناك 8 متسربين أمهاتهم أنهين الابتدائية، و 5 متسربين أمهاتهم أنهين المتوسطة مقابل 3 ممن أنهت أمهاتهم المرحلة الإعدادية.
وبمقارنة تأثير مستوى تعليم الأم على تسرب الذكور والإناث، فإننا نجد 14 متسربا من الذكور ممن أمهاتهم غير متعلمات، مقابل 18 فتاة متسربة ممن أمهاتهن غير متعلمات.
ونجد مقابل كل 6 ذكور متسربين ممن أمهاتهم أنهين الابتدائية هناك 9 فتيات متسربات ممن أنهيت أمهاتهن الابتدائية، ومقابل كل 4 ذكور أمهاتهم أنهين المتوسطة هناك 6 من الفتيات المتسربات، ومقابل كل 3 ذكور متسربين أنهت أمّهاتهم الإعدادية ثمة 2 من المتسربات فقط.
وبملاحظة نسب التسرب لكلا الجنسين، نجد أن ارتفاع مستوى الثراء يقلل من تسرب الأولاد أكثر من البنات، بينما زيادة مستوى تعليم الأم يخفض نسبة تسرب الإناث لتصبح أدنى من الذكور!
وترى المسؤولة في وزارة التربية منى خضير، أن الوقت مبكر للحديث عن المدة اللازمة للقضاء على ظاهرة التسرب من المدارس الابتدائية خاصة مع ظهور فيروس كورونا، موضحة أن “التعليم الالكتروني تجربة جديدة لم يألفها الواقع الدراسي في العراق من قبل والدوام الجزئي لا يغطي متطلبات الفهم الحقيقي للتلاميذ، لذا هناك شوط كبير لابد من تخطيه للقضاء على التسرب وإغلاق الفجوة بين الجنسين”.
وتبقى الفتيات متصدرات لمشهد التسرب في التعليم الابتدائي، ريثما تتوفر الحلول التي بمقدروها القضاء على المسببات بشكل فعلي، واستقطاب المزيد من الفتيات الى مقاعد التعليم، وردم فجوة الجهل والأمية.