Back

الخلل في التوازن الجندري بالهيئات التعليمية بين مدارس المدن والأرياف ضحيته الفتيات

عبد الجليل محمد

رغم أن الكوادر التدريسية من الإناث هنَ الأعلى نسبةً بقطاع التعليم إلا أنهن الأقل تمثيلا في المناصب الإدارية والأقل عدداً في مدارس الأرياف

مع بزوغ الفجر، تستعد لانا (اسم مستعار) لرحلتها من بغداد الى الريف الجنوبي بقرى عرب جبور حيث متوسطة “شاطئ دجلة” للبنات التي تعمل فيها معلمة. تظل عيناها معلقةً بساعتها التي تدور سريعاً كأنها تسابقها بينما تجهز الإفطار لعائلتها قبل أن تمضي للحاق بوسيلة نقلها النادرة الى قريتها.

تكرر “معلمة الأحياء” ذات الـ25 عاما، رحلتها تلك خمس مرات أسبوعيا، وهي تعد الأيام لتنهي خدمتها وتفوز بفرصة نقل وظيفتها إلى مدرسة قريبة من سكنها، كحال زميلاتها المعلمات الأخريات في المدرسة اللواتي يشاركنها “ذات الحلم”.

الطريق طويل والجهد المضاعف في التعليم بالقرى يستهلكان كل قوتها. تقول “أضطر هنا إلى الدوام بمدرستين منفصلتين أسبوعياً لاكمال ساعات النصاب المطلوبة، وهذا يعني حاجتي لمواصلات أكثر للتنقل بين المدرستين وفي منطقة نائية لا تصلها السيارات إلا قليلاً”.

وتشير “لانا” الى أن الدوام المزدوج في المدارس، حيث تندمج مدرستان أو أكثر في مبنى واحد، يشكل ضغطاً إضافيا عليها “بسبب قلة الأبنية المدرسية نقسم أيام الأسبوع إلى قسمين، ثلاثة أيام للدوام الصباحي وأثناء للدوام المسائي أو العكس، وذلك يربك كل حياتك ويحرق كل ساعات النهار. في أيام الدوام المسائي أعود متأخرة إلى المنزل وأنا منهكة تماما”.

رغم المصاعب التي تواجها “لانا” إلا أنها تحرص على أداء وظيفتها على أفضل وجه، قائلة :”في تلك المناطق هناك فتيات يكافحن لمواصلة تعليمهن وهن بحاجة الينا. العوائل لا تشجع البنات على اكمال دراستهن لذا يتسربن من المدارس”.

تتوقف لبرهة ثم تكمل: “تصور كيف سيصبح الأمر لو كانت المدرسة تدار من قبل معلمين فقط وليس معلمات… اعتقد لن تبقى طالبة واحدة!”.

الاختلاط الذي يحرم البنات من التعليم

في ريف مدينة الكرمة في محافظة الأنبار جرى في العام 2018 استحداث ثانوية أم البنين للبنات، بعد فصل البنات اللواتي كنً يدرسن في مدرسة النهروان المختلطة، إلا أن المدرسة الجديدة يديرها الذكور وهي لا تضم أي من الإناث في الهيئة التدريسية.

يقول يوسف العيساوي مدير مدرسة النهروان المختلطة وأحد أبناء المنطقة، أن قرار فصل المدرسة جاء من أجل “الحد من تسرب الفتيات من التعليم الثانوي المختلط بعد منع الأهالي لبناتهم من إكمال التعليم بحجة الاختلاط وهو ما جعل القرية لفترة طويلة بدون خريجات من الجامعة”.

ويرى العيساوي أن وجود مدرسة ثانوية للبنات ضروري حتى ولو تم الاستعانة بمعلمين ذكور بعقود مؤقته لسد النقص في المعلمين من أجل ضمان استمرار البنات في التعليم وعدم تسربهن.

يضيف :”نحن بانتظار تخرج أول دفعة طالبات من بنات المنطقة من الكليات للاستعانة بهن لسد النقص في الكوادر التعليمية خاصةً أن المدرسة في منطقة جزيرة الكرمة البعيدة عن مركز الكرمة، وهناك صعوبة في التنقل الى المنطقة وهذا يجعل وصول المعلمات إلى الريف أمر معقد”.

بعد فصل ثانوية أم البنين، عن المدرسة المختلطة، اختير أحمد عبيد، الرجل الذي قضى تسع سنوات في مدرسة النهروان معلما ليكون مديراً للمدرسة الجديدة للبنات. لكن المربي المعروف في المنطقة واجه مشكلة معقدة تتمثل بعدم وجود كوادر تعليمية من الإناث.

قلة المعلمات في الريف

يأخذ “عبيد” نفسا عميقا قبل ان يتحدث عن تعليم الفتيات بالاعتماد على كادر من المعلمين :”أنا هنا أب للطالبات قبل أن أكون مديرا للمدرسة، لكن هذا لا يغير حقيقة صعوبة الموضوع، فوجود معلمين لا يعوض الكادر النسوي لأن الطالبات يحتجن إلى من يفهم احتياجاتهم ويكون أقرب لهن خصوصاً بهذا العمر الحساس”.

قبل أشهر التحقت معلمة واحدة بالمدرسة كمتطوعة مع زوجها الذي يعمل كمحاضر في المدرسة، ثم حصلت على عقد محاضر.

ينتظر “عبيد” حل تلك المشكلة بتأمين عقود عمل لبعض الخريجات من بنات المنطقة: “هناك ثلاث خريجات من الأقسام التربوية في الجزيرة، وفي العام المقبل سيكون العدد قد تضاعف، وانا اتواصل مع عوائلهن لتسهيل عملهن في المدرسة لكن نحتاج الى توفير تعيين أو عقود لهن”.

ويؤكد ان مديرية التربية وعدت بحل مشكلة المدرسة لكن كل شيء مرهون بإطلاق التعيينات الجديدة المرتبطة بالموازنة ولا توجد استثناءات. إلا أن يحصل ذلك فإن العديد من العوائل سيتجنبون إرسال بناتهم للمدرسة بسبب عدم وجود كادر نسائي فيها.

الريف يفتقد المعلمات

يُظهر تحليل البيانات الخاصة بالتعليم في المركز الوطني للإحصاء والتي يتم جمعها بمسح سنوي عن واقع التعليم العراق، أن الإناث هن الأكثر عدداً في قطاع التعليم بشكل عام، إذ قاربت نسبتهن الثلثين تقريباً، ويشمل ذلك قطاع التعليم الحكومي في الحضر أيضا فالاناث هن الأكثر عدداً فيه أيضاً.

ففي التعليم الابتدائي الحكومي في الحضر، من بين كل 25 فرداً في الكادر التدريسي هناك 20 معلمة مقابل 5 معلمين. والمحافظة الأقل في نسبة المعلمات هي ذي قار بـ 14 معلمة مقابل 11 معلماً، فيما محافظة المثنى هي الأعلى من ناحية تمثيل الاناث بـ 22 معلمة مقابل 3 معلمين.

وفي التعليم الثانوي الحكومي في الحضر من بين كل 25 فرداً من الكادر التدريسي، هناك 15 معلمة و10 معلمين. وتعد محافظة الأنبار الأقل في نسبة المعلمات بـ 12 معلمة مقابل 13 معلماً، فيما كانت بغداد الأعلى بـ 18 معلمة مقابل 7 معلمين.

إلا أن الأمر ينعكس تماماً في الريف، ففي التعليم الحكومي الابتدائي في الريف من بين كل 25 فردا من الكادر التدريسي، هناك 11 معلمة و14 معلماً. وتسجل محافظة صلاح الدين النسبة الأقل في عدد المعلمات بـ 8 معلمات مقابل 17 معلماً، فيما تصدرت محافظة ذي قار النسبة بـ 17 معلمة مقابل 8 معلمين.

ويتكرر ذات الأمر في التعليم الثانوي الحكومي في الريف، فمن كل 25 من الكادر التدريسي هناك 9 معلمات (مدرسات) و16 معلماً (مدرساً)، وتسجل محافظة نينوى النسبة الأقل في عدد المعلمات بـ 5 معلمات مقابل 20 معلماً، بينما سجلت في بغداد النسبة الأعلى بـ 11 معلمة مقابل 14 معلماً.

تلك الأرقام التي تؤكد قلة الكوادر التعليمية من الإناث في الأرياف، تؤثر على نسب تسرب البنات من التعليم الابتدائي والثانوي هناك.

تواجد أفضل في التعليم الخاص

تختلف الصورة نسبياً في التعليم الخاص حيث يتم تسجيل حضور أفضل للإناث، فرغم أن التعليم الخاص في العراق لا يملك إدارة مستقلة عن المؤسسة التعليمية بشكل عام، إلا أنه يحافظ على نوع من التوازن بين الذكور والإناث في الكادر التدريسي في مدارسه بشكل عام.

ففي التعليم الخاص في الحضر كان عدد المعلمات في المرحلة الابتدائية هو الأعلى، إذ من بين كل 25 فرداً من الكادر التدريسي هناك 21 معلمة مقابل 4 معلمين. وتسجل محافظة ميسان النسبة الأقل بعدد المعلمات بـ 13 معلمة مقابل 12 معلماً، فيما بغداد تضم النسبة الأعلى بـ 23 معلمة مقابل معلمين اثنين فقط.

لكن الصورة تنعكس في التعليم الخاص الثانوي في الحضر، فمن بين كل 25 فرداً من الكادر التدريسي هناك 10 معلمات مقابل 15 معلماً. والنسبة الأقل في تمثيل الإناث سجلت في محافظة ذي قار بـ 5 معلمات مقابل 20 معلماً، بينما سجلت بغداد النسبة الأعلى بواقع 15 معلمة مقابل 10 معلمين.

أما في التعليم الثانوي الخاص في الريف، فكانت نسبة المعلمين هي الأعلى فمن كل 25 من الكادر التدريسي هناك 11 معلمة مقابل 14 معلماً. وسجلت أقل نسبة في محافظة الأنبار بـ 8 معلمات مقابل 17 معلماً، وكانت النسبة الأعلى في محافظة بغداد بـ 19 معلمة مقابل 6 معلمين.

وينعكس الأمر مجدداً في التعليم الابتدائي في الريف، إذ أنه من كل 25 من الكادر التدريسي هناك 19 معلمة مقابل 6 معلمين. وتحقق الأنبار توازناً هنا، إذ يتساوى فيها عدد المعلمين والمعلمات، بينما تسجل محافظة بابل النسبة الأعلى بـ 23 معلمة مقابل معلمين اثنين فقط.

كبار السن يشكلون الغالبية

على الرغم من أن عملية التوظيف في قطاع التعليم شهدت نشاطاً في السنوات الخمس الأخيرة حيث تم توظيف نحو 20% من جميع المعلمين المتواجدين حالياً في القطاع خلال الفترة بين عامي 2014 و2019، إلا أن أعداد الشباب تظل صغيرة ولم تصل إلى ربع النسبة الكلية للكوادر التعليمية في البلاد، فمن بين كل 25 من الكادر التدريسي هناك 3 معلمين شباب تحت سن الـ30 عاما، و22 معلماً فوق سن الـ30 عام.

ومازال قطاع التعليم يميل إلى توظيف الإناث في الكادر التدريسي، فثلثي من تم توظيفهم من الكادر التدريسي في تلك الفترة هم من الإناث. وسجل أقل معدل توظيف للمعلمات في محافظة ذي قار بتوظيف 11 معلمة مقابل 14 معلماً من بين كل 25 فرداً تم توظيفهم، وكان أعلى معدل في البصرة بتوظيف 17 معلمة مقابل 8 معلمين.

“التعليم الحكومي يديره الذكور وتنوء بمهامه الإناث”

الأرقام التي تؤكد أن غالبية الكوادر التدريسية في المدارس العراقية، هي من الإناث لا ينعكس على تمثيلهن في المواقع الادارية بالمدارس، فتمثيل الذكور فيها أكبر رغم ان الكوادر التدريسية النسائية عموما تفضل تعيين مديرة على تعيين مدير.

تقول الباحثة الاجتماعية في وزارة التربية وجدان صاحب، أن وجود مدير في مدرسة كادرها التدريسي أغلبه من المعلمات “يؤثر على الانسجام ويقيد راحة المعلمات وقد يزيد من التوتر لديهم”.

وتؤكد صاحب أن أغلب المعلمات “يفضلن التعامل مع مديرة بدلاً من مدير، وان بعض المشاكل أساسها يكون وجود مدير في إدارة المدرسة خصوصاً في البيئات المحافظة جداً مثل محافظة النجف”.

تستدرك وجدان بالاشارة الى تفضيل واحد في كون مدير المدرسة رجلا، وفق ما يراه البعض، يتمثل في “ضمان انضباط أكثر في الأداء”، مشيرة الى أهمية الاختبارات السنوية للكادر التدريسي التي يتم على أساسها اختيار المدير.

الإناث أقل تمثيلا في المناصب

في ريف مدينة الكرمة تم تعيين المعلم مروان يوسف في احدى مدارس المنطقة، دون ان يتم تعيين أي معلمة في المدرسة ذاتها رغم حاجتها لذلك، كما تعاني مدارس المنطقة عموما من قلة المعلمات فضلا عن ندرة المديرات.

يعزو يوسف السبب إلى عاملين اثنين يتمثل الأول في “الخطة التربوية المعتمدة وحاجة المدارس”، ويتمثل الثاني في “طبيعة المجتمع الأنباري العشائري المحافظ والذي يمنع الفتيات من إكمال تعليمهن”.

يقول مروان ان انعكاس تلك الطبيعة المحافظة يمكن ملاحظته بسهولة من خلال العدد الأكبر للطلاب الذكور في المحافظة مقارنة بالإناث “وحتى إذا أنهت الفتاة دراستها فان المجتمع العشائري يمنعها من العمل”.

تؤكد بيانات المركز الوطني للإحصاء، كلام مروان، فالذكور يسيطرون على المراكز الإدارية في قطاع التعليم العراقي، فمن بين كل 17 من الكوادر الإدارية تتسلم 6 إناث منصب المدير مقابل 11 ذكراً، وأقل محافظة في تمثيل النساء بادارات مدارسها هي ميسان بـ 4 مديرات مقابل 13 مديرا، والأعلى في النسبة هي بغداد بـ 7 مديرات مقابل 10 مديراً.

إلا أن مروان، يرى أن ذلك الواقع يتغير، وخصوصاً بعد موجة النزوح من الأنبار الى باقي محافظات البلاد واحتكاك أهالي الأنبار بسكان باقي المحافظات بما فيه اقليم كردستان، بعد احتلال المحافظة من قبل تنظيم داعش في 2014 “فأصبح عمل النساء والدراسة شيء مطلوب في المجتمع الأنباري ويتم تقبله بعكس ما كان عليه الحال في السابق”.

وتشكل المحافظات المحررة (الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى) النسبة الأقل في عدد الإناث العاملات في قطاع التعليم مقارنة بالذكور.

يرجع محمد المشهداني، رئيس ملاحظين في ديوان وزارة التربية، التفاوت بين نسبة المعلمين والمعلمات في المحافظات المحررة مقارنة بباقي المحافظات، الى حالات النزوح التي حصلت من تلك المحافظات.

يقول المشهداني ان “معظم الكوادر التدريسية من المناطق المحررة ماتزال نازحة واغلبها استقرت في المحافظات التي نزحت اليها أو في إقليم كردستان، والكثير من المعلمات النازحات تزوجن وشكلن عوائل في مناطق النزوح، وحسب القانون فإن الموظفة تتبع سكن الزوج في مكان العمل حتى أن وزارة التربية في فترة ما أوقفت تطبيق قانون النقل لسكن الزوج في المناطق المحررة”.

فرص التأهيل وزيادة تمثيل الإناث

تظهر مؤشرات الدورات التأهيلية للكوادر التعليمية الى حصول الإناث على نسبة متوازنة في المشاركات تساهم في تطوير امكاناتهن وتعزيز دورهن في القطاع.

فمن بين كل 25 من الكادر التدريسي الذي تم تأهيله بدورات تدريبية في العراق خلال العام 2019 كان نحو نصفهم من الإناث. وكانت أقل محافظة بعدد المعلمات المؤهلات هي الأنبار بـ 7 معلمات مقابل 18 معلماً، والأعلى في نسب التأهيل هي بغداد بـ 15 معلمة مقابل 10 معلمين.

وفي التعليم الابتدائي حصرا ومن بين كل 25 من الكادر التدريسي الذي تم تأهيله بدورات تدريبية في العراق خلال العام 2019، هناك 16 معلمة مقابل 9 معلمين. وكانت أقل محافظة بعدد المعلمات المؤهلات هي الأنبار بـ 11 معلمة مقابل 14 معلما، والأعلى كانت البصرة بـ 19 معلمة مقابل 6 معلمين.

أما في التعليم الثانوي فمن بين كل 25 من الكوادر التدريسية التي تم تأهيلها بدورات تدريبية في العراق خلال العام 2019 هناك 13 معلمة مقابل 12 معلما، وكانت أقل محافظة بعدد المعلمات المؤهلات هي الأنبار بـ 9 معلمات مقابل 16 معلما، والأعلى هي بغداد بـ 16 معلمة مقابل 9 معلمين.

يرى المدرس الثانوي محمد نصيف ان الخلل في توزيع الكوادر التعليمية من الاناث بين القرى والمدن، يمثل مشكلة حقيقية يجب العمل على تجاوزها، خاصة أنها تؤثر على نسب تسرب الفتيات من المدارس.

مسؤول شعبة التخطيط في المديرية العامة للإعداد والتدريب نبيل رفيق، يرى أن للسياسة تدخل كبير في عمل قطاع التربية، مشدداً على ضرورة إعادة توزيع المعلمين والمعلمات بين المحافظات والأقضية والأطراف على أساس نسب متوازنة لضمان جودة سير العملية التعليمية.