Back

ربع نساء العراق في دوامة العنف الأسري

ربع نساء العراق في دوامة العنف الأسري

امرأة واحدة بين كل اربع نساء ضحية للعنف في ظل الأعراف وغياب المورد المالي وعجز منظومة القوانين 

هدى الصافي

بوجه تحفره الكدمات تحاول اخفائها بطرف غطاء رأسها، وبكلمات متقطعة تهمس “الأطفال يخافونه، أراهم مرعوبين كلما قام بضربي.. يجلسون بلا حراك في زوايا الغرفة ويبكون بصمت”.

تبوح “هند” (29 عاما) التي تسكن بقضاء سوق الشيوخ جنوبي محافظة ذي قار، بسر تلك الكدمات التي لا تغادر وجهها وجسدها، وهي تتلفت حولها لكي تتأكد من أن أحدا لا يسمعها، فالعنف المنزلي شأن عائلي “تجوز ممارسته ولكن لا يجوز الحديث عنه”.

أكثر من مليوني امرأة تتعرض للعنف في العراق، بحسب تقديرات بحثية، جزء كبير منهن يلذن بالصمت “لا نملك ان نفعل شيئا ولا خلاص لنا” في ظل الأعراف الاجتماعية المقيدة وفقدان الاستقلالية الاقتصادية وعجز منظومة القوانين عن مواجهة العنف الذكوري.

تؤكد دراسة مسحية لوزارة التخطيط العراقية انجزت بالتعاون مع صندوق الامم المتحدة للسكان، ان امرأة واحدة من كل اربع نساء تتعرض للعنف الذي يتخذ صورا مختلفة تتباين بين الايذاء النفسي والجسدي والجنسي والاقتصادي.

ويعد العنف النفسي اكثر صور العنف المنزلي شيوعا ضد النساء، ويتمثل في اضطهاد المرأة وحرمانها من اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها، فضلا عن سوء المعاملة والتعدي اللفظي.

ومقابل كل امرأة تتعرض للعنف الجنسي في العراق، هناك امرأتان تتعرضان للعنف الجسدي، وأربع نساء يتعرضن للعنف النفسي.

طوال سنوات زواجها الثلاثة عشرة تعرضت “هند” لأنواع مختلفة من العنف، وقضت أجمل سنوات عمرها في دائرة مغلقة من الاضطهاد الاجتماعي لم تستطع الخروج منها في ظل قيود لا تستطيع الفكاك منها.

تقول “حاولت كثيرا الانفصال عنه، وطلبت الطلاق مرارا كلما قام بضربي، لكني كنت اواجه الرفض من اهلي، بسبب نظرة المجتمع الى المرأة المطلقة. وكنت في كل مرة أتساءل عن مصير أطفالي وأخشى من عنفه عليهم”.

تضيف والكلمات تختنق في حنجرتها: “أنا لا أملك شهادة تؤهلني للعمل، لا فرص مناسبة لأمثالي…واهلي لا يمكنهم تحمل مسؤوليتي انا واطفالي”.

لا تعرف “هند” أسبابا محددة لعنف زوجها”:”أتعرض للضرب لأتفه الأسباب، ولا أحد يستطيع الاعتراض، فالزوج دائما على حق .. حتى حين يتوسل به أحد الأطفال للتوقف يزداد عنفا ويتوعده بالضرب”.

اللجنة الوطنية للسياسات السكانية بوزارة التخطيط: العنف يطارد امرأة واحدة من كل اربع نساء  (((مانشيت)))

عنف تبيحه العادات

تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية دورا كبيرا في صناعة العنف وترويجه كسلوك مبرر ضد النساء طالما حضرت الحجج. وهي تعفي صاحبها من العقاب أو حتى اللوم، بل وتشجعه على الاستمرار باعتبار العنف “اداة تأديبية تقر بعض النساء بأحقية الرجل في استخدامها”، تقول الأستاذة الجامعية هدى قادر.

وتضيف:”طريقة التفكير هذه حاضرة لدى معظم النساء اللواتي يتعرضن للضرب، ويسوقها الأهل أو يبررونها بحجج كثيرة”.

تقول حليمة أحمد (42 عاما) وهي مدرسة ثانوية تزوجت بعد تخرجها بست سنوات من أحد أقاربها، انها فوجئت برجل قاسي القلب “لم تذق معه طعم السعادة يوما”.

تضيف: “عرفت الضرب على يده في الأسابيع الاولى من زواجنا، كانت صدمة كبرى فلم يسبق ان تعرضت للضرب في حياتي، لكن الصدمة الأكبر جاءت من أهلي الذين لم يتخذوا موقفا من عنفه ورفضوا انفصالي عنه”.

“قالوا في عائلتنا البنات لا يخرجن عن طوع أزواجهن، تحملي وستتغير أحواله”، تقول حليمة “لكن شيئا لم يتغير حتى بعد أن كبر الأطفال، وصارت أمي تقول: تحملي لتحافظي على أطفالك”.

70% من النساء يعتبرن ضرب الزوج لزوجته اذا خالفت أوامره سلوكا طبيعيا مقابل 60% من الرجال ((مانشيت))

70% من النساء يبررن الضرب

وتظهر الدراسة التي اعدتها اللجنة الوطنية للسياسات السكانية بوزارة التخطيط، اعتمادا على استبيان شاركت فيه نساء تتراوح أعمارهن بين (15-45 عاما) ان نحو نصف النساء يجدن ان تزويج الأب لابنته القاصر “اذا تقدم لها عريس مناسب لا يعتبر عنفا”، وان كل سبع من بين عشر نساء يَرَونَ ان “ضرب الزوج لزوجته اذا خالفت أوامره سلوكا طبيعيا”، في حين ان كل ستة رجال من أصل عشرة يجدون ذلك مبررا.

https://datawrapper.dwcdn.net/rQ5a1/4/

هذا القبول الطوعي من النساء لتعرضهن للعنف، او لتسلط الرجل عليهن، هو نتاج للتنشئة الاجتماعية التي ظلت طوال قرون تقبل العنف ضد المرأة باعتباره حقا من حقوق الرجل.

ينعكس ذلك، بحسب الباحث الاجتماعي بيار علي، على سلوك المرأة المعنفة مع أطفالها، فتتبنى دون وعي افكارا تمييزية “فتفضل الذكور على الإناث من اولادها، او تسمح بتسلط الأخ على اخته، او تشجع تزويج بناتها القاصرات او منعهن من اكمال التعليم او العمل”.

تعنيف من نوع آخر

لا ينحصر العنف ضد النساء بالضرب، فـ”التزويج دون السن القانونية” يمثل أيضا شكلا من اشكال العنف الشائعة.

يؤكد علي، انه على الرغم من ان القانون العراقي “يمنع تزويج الفتيات بعمر اقل من 15 عاما، الا ان زواج القاصرات دائما ما يحدث خارج المحكمة بعقود شرعية لرجال الدين، ليصبح لاحقا قانونيا”، مبينا أن الأرقام التي تسجلها منظمات تظهر ان “فتاة واحدة من كل ثلاث تتزوج وهي قاصر”.

وتؤكد الدراسات الميدانية التي اجريت في السنوات الخمس الاخيرة من قبل مؤسسات انسانية وبحثية والتي اعتمدت على مسوحات واستطلاعات في محاكم محددة في بغداد، ان زواج القاصرات في تزايد، وان اكثر من ثلث الفتيات تزوجن قبل سن الـ 18 عاما، فيما تسجل بعض مناطق الجنوب ارقاما مخيفة نتيجة ارتفاع معدلات الفقر وندرة فرص العمل الى جانب العادات والتقاليد العشائرية.

وهو ما حصل مع “هند” التي زوجها والدها دون سؤالها عن رأيها، تقول: “كان عمري 15 عاما فقط عندما تزوجته، واجهت صعوبة بالانسجام معه منذ الاشهر الاولى، كنت اعاني من مشاكل مستمرة تقبلتها بمرور الوقت”.

تستدرك: “لكني بقيت أشعر بالندم لأني رضخت لقرار والدي، كنت احلم حينها بالعودة الى المدرسة.. اليوم انا ام لخمسة اطفال واشعر كل يوم بالندم.. ربما لو أكملت دراستي كانت ستتاح فرصة اكبر أمامي للعمل وبناء حياة مختلفة”.

واظهرت نتائج المسح التحليلي للأمن الغذائي للأسرة لسنة 2016 أنه مقابل كل ثلاث نساء متزوجات بعمر اقل من 17 عاما في المدينة هناك اربع نساء مثلهن في الريف.

ولوحظ تفاوت كبير ما بين المحافظات في نسب النساء المتزوجات بعمر اقل من 17 عاما، حيث ترتفع نسبتهن في بعض المحافظات مثل كربلاء وبابل والنجف بشكل كبير، بينما تنخفض في محافظات مثل دهوك وكركوك، فمقابل كل امرأة متزوجة بعمر اقل من 17 عاما في دهوك هناك 12 امرأة بوضع مماثل في كربلاء.

وهذا يوضح ان طبيعة البيئة المناطقية ذات تأثير كبير في تشجيع ظاهرة زواج القاصرات او الحد منها في المناطق المختلفة.

دائرة مغلقة وضحايا الى الأبد

ترى “هند” ان لا حل أمامها فهي تعيش في دائرة محكمة الاغلاق ستظل اسيرة لها الى الأبد “بعد سنوات، مازلت اتعرض للضرب والاهانة، ولا استطيع الحديث عن الطلاق.. لا استطيع اكمال دراستي او الحصول على عمل… لا استطيع ان اخرج من المنزل أساسا.. حياتي كلها عبارة عن سجن وسجان وتعذيب وألم”.

“طبعا لا استطيع الذهاب الى الشرطة..فهذا سيزيد الأمر سوءا، وقد تتعرض عائلتي للخطر”، تقول وهي تتصنع نصف ابتسامة “لا خلاص من ذلك”.

بحسب باحثين اجتماعيين وضباط شرطة، معظم النساء اللواتي يتعرضن للتعذيب يتجنبن اللجوء الى الشرطة، اذ تفرض الاعراف الاجتماعية نفسها من جديد، ومجرد دخول النساء الى مراكز الشرطة يعد “نقيصة اخلاقية تجلب للنساء عقابا مضاعفا”.

يؤكد ذلك الرائد أحمد عزيز ناصر من قسم الأسرة والطفل في دائرة العنف الأسري في محافظة ذي قار قائلا: “العادات هي اهم المعوقات التي نواجهها اضافة الى عدم البوح بالمشكلة الأصلية”.

ويوضح :”تأتي المعنفة الى المركز لكنها تتجنب البوح بكل تفاصيل المشكلة او أسرارها، تتحدث عن الامور الاساسية فقط , اما الامور الخاصة او الحساسة فلا تتطرق لها حتى نتمكن من معرفة جذر المشكلة ونصل الى حل لها”.

وتتعرض النساء الى ضغوطات عائلية شديدة عند محاولة اللجوء الى الشرطة، ويجدن انفسهن غالبا تحت عنف اكبر بعد القيام بتلك الخطوة.

وهو ما واجهته “سهاد” (24 عاما) التي لم تتحمل عنف زوجها العاطل عن العمل، ومع اغلاق أهلها لبابهم بوجهها، توجهت الى مركز الشرطة الذي اوقف الزوج، قبل ان يتم تسوية الأمر بين العائلتين.

تقول: “حين عاد الى البيت تعرضت للضرب مجددا، كان يصرخ: لا أحد سيقف الى جانبك لا الشرطة ولا أهلك”.

لم يختلف الأمر بالنسبة لـ”زينب” وهي احدى ضحايا العنف الأسري، والتي تعرضت للضرب على يد زوجها “حتى في فترات حملها” دون أن تتمكن من مواجهته بسبب الأعراف وعجز القانون.

تشير “زينب” الى ما يحصل عادة لتسوية الشكاوى:”في احدى المرات حاولت ايقافه بتقديم شكوى الى الشرطة التي قامت باستدعائه وحجزه، لكن سرعان ما تدخل اهله واخرجوه بكفالة ثم جرى الاتفاق مع والديَ على تسوية الامر واعادتي الى المنزل..وتم سحب الشكوى”.

الوعي مفتاح الحل

ترى ميسون العبودي رئيس منظمة المناهل لحقوق الأنسان ” ان اكبر المشكلات التي تواجهها النساء تتمثل في تدني مستوى الوعي للأهل او الزوج بشكل عام ، وانعدام الغطاء الاقتصادي والدخل المادي الذي يحفظ كرامتهن واستقلالهن بشكل فعال ، فضلا عن حاجة الفتيات الى الدعم في تطوير وعيهن بحقوقهن والمطالبة بها “.

ووفق المسح الذي اجرته وزارة التخطيط، فان النساء يربطن العنف الموجه نحوهن بالتنشئة والثقافة السائدة.

فنحو 7 من كل 10 نساء، ترى أن التربية والتنشئة هي العامل الأكثر تأثيرا في زيادة معدلات العنف الجندري، في حين ترى 6 من كل 10 منهن، ان الثقافة السائدة والفهم الخاطئ للدين عوامل اساسية في زيادة العنف الجندري.

واظهرت نتائج المسح ان حوالي نصف النساء، يعدن “ضعف الوعي” لدى المرأة سببا رئيسيا للعنف الموجه اليها.

ووفق المسح فان لبيئة السكن (حضرية او ريفية) دور في مدى وعي النساء، فهناك تباين واضح بين النساء في مدى وعيهن بالعنف تبعا للمناطق المختلفة في العراق، فاثنين من بين كل خمس نساء لا يعرفن ان هناك “عنفا يمارس ضدهن على اساس جندري”، خاصة في مناطق الريف.

ومقابل كل اربع نساء يعين مفهوم العنف ضد المرأة في المناطق الحضرية، هناك امرأتان فقط في المناطق الريفية تعيان مفهوم العنف.

https://datawrapper.dwcdn.net/2mvRP/2/

كما ان هناك اختلافا واضحا بشأن وعي النساء بالعنف على أساس التوزيع المناطقي، فهناك فجوة واسعة بين السليمانية ودهوك اللتين تتميزان بوعي أعلى بالعنف في صفوف النساء عما هو عليه في محافظتي الانبار والمثنى، فمقابل كل 6 نساء يعين بالعنف في السليمانية ودهوك هناك امرأة واحدة فقط تعي بهذا المفهوم في الانبار والمثنى.

دور المنظمات والمؤسسات

يرى باحثون، بينهم بيار علي، ان معدلات العنف المرتفعة ضد النساء في جنوب البلاد مقارنة بشماله، ترتبط في أحد أسبابها بضعف دور المنظمات المدنية والمؤسسات الحكومية الداعمة لحقوق المرأة هناك، منبهين الى ان الطريق ما يزال طويلا لصناعة عادات واعراف بديلة تحد من العنف وتنبذه كسلوك اجتماعي.

طوال السنوات التي تعرضت فيها “هند” للعنف، لم تلجأ الى منظمات مدنية لطلب المساعدة. تقول “لا اعرف أحدا”.

تظهر البيانات المتعلقة بنشاطات المنظمات الحكومية والدولية في مجال دعم العمل الانساني، تدنيها في وسط وجنوب العراق بما يقل عن النصف مقارنة مع الانشطة المماثلة في شمال البلاد.

https://datawrapper.dwcdn.net/jgXgb/5/

الشباب والتغيير

في الوقت الذي تحمل بيانات العنف المنزلي في العراق، الكثير من المعاناة والمخاوف والتحديات، فانها تحمل ايضا قدرا من الأمل، فالارقام تظهر ان الاجيال الجديدة تبدو اكثر ميلا لتقبل حقوق النساء في التعليم والعمل واختيار شريك الحياة، ما يعني ميلا اكبر الى رفع العنف التسلطي الموجه ضد النساء وتمكينهن للخلاص من العنف بصوره المختلفة.

فأكثر من 70% من الشباب يدعمون حق المرأة في التعليم، مقابل دعم أقل من 50% من كبار السن لذلك الحق. ويؤيد الشباب حق المرأة في العمل بنسبة 66% مقارنة بنحو 42% بالنسبة لكبار السن.

https://datawrapper.dwcdn.net/QoRF6/1/

المنظومة القانونية

كشفت أحدث تقديرات وزارة التخطيط العراقية عن ارتفاع عدد السكان إلى 40 مليون نسمة في نهاية عام 2020، وتوقعت تزايد العدد خلال السنوات العشر المقبلة ليصبح خمسين مليون نسمة بحلول سنة 2030. ولم يقم العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003، بإجراء إحصاء سكاني بسبب الظروف الأمنية والانقسامات التي مرت بها البلاد.

مع اعلان وزارة التخطيط عن ارتفاع عدد سكان البلاد الى 40 مليونا، وفق أحدث تقديراتها، وفي ظل التساوي التقديري لعدد الذكور والاناث، ومع ارقام العنف ضد النساء التي تؤكد تعرض امرأة واحد للعنف من كل اربع نساء، فان العنف يطال أكثر من مليوني امرأة في العراق، يقول الباحث علي.

ويضيف:”كل واحدة منهن لديها تاريخ مع العنف العائلي، تاريخ من المعاناة والظلم والألم المسكوت عنه بسبب العادات وضعف الوعي وغياب الاستقلال الاقتصادي، وايضا نتيجة عجز المنظومة القانونية عن حماية النساء”.

ويؤكد علي في ظل هذه “الأرقام المفزعة” تظهر بين فترة وأخرى حملات للمدافعة والمطالبة باقرار تشريعات وتدابير قانونية واجرائية تحد من العنف الموجه ضد النساء، حملات تحظى بدعم حقوقي واكاديمي وشبابي وأحيانا حكومي “لكنها تواجه حسابات معقدة في أروقة المشرعين” .

يقول الرائد احمد عزيز، بقسم الأسرة والطفل في دائرة العنف الأسري بذي قار: “ننتظر بفارغ الصبر اقرار قانون العنف الاسري، لأنه سيسهم في وضع حد للكثير من المشاكل التي تتعرض لها الأسرة العراقية، وسيسهل عمل ضباط التحقيق في قسم الاسرة والطفل”.

لكن “هند” لا تثق بأن قانوناً او اجراءً يمكن ان ينقذها من حلقة العنف واليأس التي تعيشها. هي تعتقد انها ستظل اسيرة لها وضحية الى الأبد، تكرر “لا خلاص لنا” وهي تنظر الى ما وراء زجاج النافذة، قبل ان تسأل “متى سيصدر القانون؟”.