قدم الزميل الباحث في المؤسسة بحثه المُطول عن “الموصل، قبل واثناء وبعد التحرير” الذي يُحلل فيه العناصر غير العسكرية التي يجب معالجتها قبل شن الهجوم النهائي ضد تنظيم داعش في مدينة الموصل، الذي يُركز على التخطيط الإنساني، وقضايا الحُكم والأمن بعد انتهاء الصراع، وكذلك على مسألة إعادة الإعمار والمصالحة. ويتناول أيضا المشاغل الرئيسية للطائفة السنية في مُحافظة نينوى، ويحلل طرق معالجتها ضمن الديناميكيات السياسية والدستورية الواسعة في العراق.
إذ ذكر أنه من الجانب العسكري، تبدو عملية تحرير الموصل من سيطرة تنظيم داعش وكأنها قريبة، لكن ذلك القُرب بغياب الاستعدادات السياسية واللوجستية كإعادة الإعمار والمصالحة الأهلية، يُشكل خطراً ماثلاً على قُدرة تلك العملية على النجاح الفعلي. إذ ثمة الكثير من الدوافع السياسية لدى الولايات المُتحدة والحكومة العراقية لأن تفعل ذلك بأسرع وقت، لكن ذلك لا يعني بالضرورة بأنه لمصلحة النجاح الفعلي لعملية التحرير تلك.
فعلى المستوى الإنساني الأكثر وضوحاً، فأن جميع المؤسسات المعنية، بالذات تلك التابعة للأمم المُتحدة ولحكومة إقليم كوردستان العراق، تُعلن بشكل واضح عدم استعدادها لتدفق قُرابة مليون نازح من مدينة الموصل ومُحيطها، وأن استعداداتها الفعلية لا تزيد عن القابلية لاستقبال رُبع هذا العدد فحسب. وما سيزيد من صعوبة هذا المسألة، هو غياب أية خطة واضحة لإعادة أعمار المدينة والبلدات المُحيطة بها. إذ لا توجد تعهدات دولية أو وطنية لفعل ذلك، ولا توجد رؤية مُحددة لأهمية وحيوية ذلك الشيء بأسرع وقتٍ مُمكن بعد عملية التحرير مُباشرة، ليتمكن ملايين النازحين المُكدسين في المُخيمات من العودة إلى مناطقهم.
لكن مما هو مُجمع عليه، بأن أية عملية لاستيعاب ملايين النازحين ومن ثُم إعادة إعمار مناطقهم التي سوف تتعرض لدمار هائل، لن تتم بدون حدوث انفراج سياسي على شكل توافق بين مُختلف الجهات السياسية والحساسيات الأهلية التي تُشكل الطيف المُتنوع لعموم مُحافظة الموصل.
ثمة العديد من الملفات الأكثر وضوحاً في هذا المجال، حيث سيكون لحلها الدور البارز في خلق ذلك التوافق السياسي والأهلي المُتوقع. إذ مثلاً لا بُد من تأسيس آلية جديدة يستطيع بها سُكان مُحافظة نينوى أن يديروا بها أحوالهم وإعادة استثمار مواردهم الخاص، دون هيمنة من قِبل الحكومة المركزية وبفروض منها، وهذه القُدرة على الحُكم المحلي هي جوهر السؤال المركزي “كيف ستُحكم الموصل بعد تحريرها!”. والخطوة الأولى في ذلك الاتجاه هو بإجراء انتخابات محلية في مُحافظة الموصل بكُل شفافية، يستطيع السُكان المحليون عبرها اختيار مُمثليهم المُباشرين، ليشعروا بعمق بأن هذه السُلطة المحلية إنما تُمثلهم، وليست “سُلطة هيمنة” عليهم.
ضمن هذا السياق لتمثيل القواعد الاجتماعية في محافظة نينوى، لا بُد من حل ملفات تتعلق بحل مسالة المناطق المُتنازع عليها ضمن المُحافظة، وتشكيل مؤسسات قضائية واضحة المهام في مُعالجة ومقاضاة الذين ساهموا واشتركوا في الأحداث المأساوية التي جرت في السنوات الاخيرة، وأن تكون تلك المُعالجة القضائية رادعاً لأية ميول ثأرية لأي فصيلٍ أو جماعة أهلية.
إن لم تُعالج كُل تلك القضايا، والتي كانت جوهر المسألة الموصلية مُنذ العام 2003، فانه من المُتوقع أن يُستعاد حضور تنظيمات راديكالية اخرى، وإن بأشكالٍ ومُسميات أخرى.
شدد مُحافظ الموصل السابق، اثيل النجيفي، على أن مسألة الموصل لا تُعتبر مُجرد قضية تتعلق باحتلالها من قِبل داعش، وأن تحريرها سيعني عودة الحياة الطبيعية إلى سابق عهدها، كما حصل مع باقي المُدن والمناطق العراقية. ففي الموصل استغلت الحكومة المركزية النزعة القومية العربية في المدينة لأكثر من خمسين عاماً، واستخدمت المدينة وحساسيتها في مواجهة طموحات الحركة القومية الكُردية على الدوام، ولم يتوقف ذلك الشيء قط بعد عام 2003، إذ كان ثمة ما يشبه التعبئة العامة في مواجهة الأكراد، لذا لا يُمكن تخيل مُستقبلٍ آمن للمدينة والمُحافظة دون حل النزاع العربي الكُردي.
كما أن الديناميات التقليدية التي كانت قبل العام 2003 تغيرت تماماً في المُحافظة فيما بعد، إذ استحصلت الكثير من “الأقليات” على سُلطات وقُدرات جديدة، لم تكن مُتوفرة لها من قِبل، مُقابل ذلك كانت العرب السُنة في المدينة والمُحيط وعموم العراق يفتقدون سُلطاتهم بشكلٍ تدريجي ومُتقادم. أثر ذلك الشيء على توازن القوى المُتنافسة في المدينة ومُحيطها، وإعادة ذلك التوازن في العلاقة فيما بينها سيكون من أهم آليات الاستقرار بها.
حيث لا بُد أن يؤدي ذلك التوازن بين مُختلف الحساسيات لأن تشعر جميع القوى بأنها الحاكمة بشكلٍ فعلي لمناطقها، وأن تتم إعادة ترتيب الخارطة الداخلية لمُحافظة نينوى. فلماذا لا تغدو مُحافظة نينوى مثلاً اقليماً لا مركزياً، يتألف من عددٍ من المُحافظات الداخلية، لكُلٍ منها حساسيتها وآلياتها للحُكم الذاتي الأصغر، فذلك الشيء سيسمح لأن يستعيد السُكان قُدرتهم على الحُكم المحلي، وأن يخرجوا من هيمنة المركز وسياساته.
طبعاً لا يُمكن لذلك المشروع وغيره من أن يجري دون اشراف دوليٍ ما، يتعهد لمُختلف الأطراف بحفظ مصالحها وحقوقها، وأن أي طرف لن يستطيع أن يفرض هيمنه على الطرف الآخر، وطلب هذا الإشراف الدولي يبدو وكأنه مُجمع عليه من قِبل اكثر من طرفٍ سياسي وأهلي في المُحافظة.
الفريق جبار ياور حلل المُعطيات التي تبدو وكأنها ليست ناجزة بشكلٍ واضح، لكنها جميعاً تتوقف على الطريقة والسلوك الذي سوف تنتهج القوى المُحاربة في لحظة انتصارها على تنظيم داعش. ففيما لو شاركت جميع القوى في عملية التحرير، ودخلت المدينة بطريقة وسلوك مُطابق لما يفعلوه المحررون عادة، ومن ثُم خرجوا وتركوا الجيش العراقي والشرطة الاتحادية لتتولى إدارة المدينة والبدء بالترتيبات الجديدة، فأن ذلك يعني بأن بداية الطريق الصحيح قد لاحت، وأنه ثمة مسار مُختلف عما جرى مُنذ العام 2003، أو حتى عما جرى في عمليات تحرير المناطق الأخرى من تنظيم داعش.
لا توجد تطمينات لكُل ذلك، ويبدو أنه ثمة الكثير من العوامل الضاغطة لدخول المعركة دون حِسابات دقيقة ومُسبقة لكُل تلك التفاصيل.
تناولت الندوة مخاطر مواجهة نفس الصعوبات التي واجهتها عمليات التحرير الأخرى في باقي مناطق العراق، في مُدن تكريت والرمادي والفلوجة. حيث تختلف الموصل بحجمها الديموغرافي والجغرافي “الهائل” عن تلك المناطق الأخرى، وبذا فأن التأثيرات المتوقعة في حال تكرر نفس الأخطاء، إنما ستعني بأن نتائج أكثر كارثية ستترتب على ذلك، وفي هذا الإطار جاءت كُل المداخلات والتساؤلات خلال الندوة.