إن إصدار الولایات المتحدة الأمريکية لقانون “تفويض دفاع الأمن القومي” للسنة المالية الراهنة، يعد بمثابة نقطة تغيير بالغ الأهمية في السياسة الأمريکية تجاه العراق. فالقانون في هذا الإطار يستند علی المبادئ الإتحادية المنصوصة في الدستور العراقي، ويقدم دعماً للسنة والأكراد؛ في حال عدم إتباع توزيعٍ عادلٍ للثروات من قبل الحكومة المركزية. من هُنا يمكن الزعم بأنه لو كانت الولایات المتحدة قد دعمت مُنذ البداية الدستور العراقي لسنة ٢٠٠٥ ومضامين مبادئه الاتحادية، بدلاً من دعم النظام المرکزي، لما واجهت “وحدة العراق” المخاطر والتهديدات التي تواجهها اليوم.
في العام 2003 غزت الولايات المتحدة العراق – لأسباب مختلفة – مع سياسة ترمي لتغيير النظام وإنهاء الاستبداد في العراق. وعلى الرغم من الكثير من الأخطاء التي اُرتكبت فيما يتعلق بالتخطيط لمرحلة ما بعد الصِراع، فأن الخُطط السياسية حول العِراق ظلت واضحة ومتسقة. إذ يعترف الدستور العراقي لعام 2005 بإقليم كوردستان ككيان اتحادي مستقل، ويسمح بإنشاء مناطق فيدرالية أخرى، بأن تملك نفس الحقوق. جو بايدن – رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ- اقترح إنشاء مناطق فيدرالية سُنية وشيعية، جنبا إلى جنب مع إقليم كوردستان التي أنشئت بالفعل. ومع ذلك، تم رفض هذا المُقترح من قبل الولايات المتحدة، التي روجت بدلا عن ذلك لدولة مركزية قوية باستمرار!!.
خطوة الى الوراء: في يناير 2009 أصبح باراك أوباما رئيساً الولايات المتحدة، وكجزء من حملته الرئاسية، وعد بإنهاء الحرب في العراق، وسحب القوات الامريكية من هُناك. كانت رغبة أوباما بسحب القوات الأمريكية، تعني أن يتبع سياسات تسليم الملف الأمني، بغض النظر عما إذا كان المسؤولون العراقيون مُستعدون لإستِلام الملف الأمني أم لا. وهذا سمح لرئيس الوزراء، نوري المالكي للبدء في كسب السلطة والسيطرة، مما سمح له ببدء تفكيك قوات السنة -الصحوات- الذين كانوا مُساهمين بكثافة في هزيمة القاعدة في العراق، والمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية، فعل المالكي ذلك، دون دمجها بشكل صحيح ضمن أجهزة الدولة الأمنية.
خطوتان إلى الوراء: في أعقاب انتخابات عام 2010 البرلمانية العِراقية، دعمت الولايات المتحدة نوري المالكي للبقاء في السُلطة. على الرغم من أن لائحته الانتخابية لم تفز بأكبر عددٍ من الأصوات. علاوة على ذلك، حيث طالب كُل المستشارين العراقيين والأمريكيين، طالبوا الحكومة الأمريكية بالكف عن دعم المالكي، لأنه بات واضحاً بأنه زعيم بطبيعة طائفية مُتزايدة، وأن سياسة المالكي الطائفية أصبحت واضحة. كان دعم المالكي خطأ فادحاً، وبين عامي 2010- 2014 غدت سُلطة المالكي المركزية نمطاً من الاستبداد. ومع ذلك، استمرت الولايات المتحدة في دعمها له، على الرغم من حقيقة أن الاستبداد في عهده بات قائماً على “إلغاء” السُنة والأكراد، وتحطيم دورهم في صنع القرار وسيادة القانون.
ثلاث خطوات إلى الوراء: في عام 2011 سحبت الولايات المتحدة قواتها من العراق، وفق الاتفاق الذي وقعه الرئيس السابق جورج بوش، والقاضي بسحب القوات بحلول هذا التاريخ. لكن المالكي وإدارة أوباما لم يكونا يودان لهذه القوات أن تبقى في العراق. لا غرابة في فشل المفاوضات لتمديد المهلة، إذ كان على الولايات المتحدة واجب سحب القوات بمسؤولية، وعدم ترك العراق مع قضاياه العالقة، وبهيكلٍ للسلطة شبية لنظام صدام حسين. مع ذلك، وعلى الرغم من الحكم الاستبدادي المتزايد للمالكي وطائفيته واضحة، فإنها لم تفعل ما يكفي لضمان الاستقرار في العراق قبل انسحابهم. وكدلالة على الأشياء المُقبلة، فبعد يوم من انسحاب القوات الامريكية، اصدر المالكي مذكرة اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية السني طارق الهاشمي. كان تصرف المالكي لتوطيد سلطته في العراق، ومن أجل سيطرته على كُلٍ من المجالين السياسي والعسكري. وقد خلقت إجراءات المالكي مجموعة من الظروف المواتية للغاية، التي مكنت الارتفاع السريع النسبي لل”الدولة الإسلامية/داعش”. وما فاقم ذلك، هو إرسال المالكي للجيش للتعامل مع المتظاهرين السياسيين، وبالتالي إنهاء أية فرصة للحل السياسي.
أربعُ خطوات إلى الوراء: كان للسعي لتحطيم “داعش” مؤشر على صعود اهتمام الولايات المتحدة بالعِراق، وأعاد التركيز على مسألة عودتهم إلى العراق. وهكذا، في انتخابات عام 2014 لم تدعم الولايات المُتحدة المالكي، على الرُغم من أنه حصل على أكبر عدد من الأصوات هذه المرة. استيقظت الولايات المتحدة في النهاية على تهديد المالكي تجاه وحدة العراق. ومع ذلك، سقطت الولايات المتحدة بسرعة في الفخ نفسه، وذلك بدعم رجل واحد تأييداً أعمى، وهو رئيس الوزراء التوافقي حيدر العبادي. كان تركيز الولايات المتحدة على محاولة هزيمة داعش عسكرياً، لكنها فشلت في معالجة الإخفاقات الهيكلية في العراق، التي أدت إلى بروز داعش. لأن العبادي يفتقر للقُدرة والدعم لمعالجة هذه القضايا البنيوية، ووجميع محاولاته فشلت لأن تعبر هذه القضايا البرلمان.
خطوة للأمام: تقرير لجنة “الخدمات العسكرية” في مجلس النواب الأمريكي / H.R.1735 /-“تفويض دفاع الأمن القومي” للسنة المالية 2016، ينُص ما يلي: “سيكون من هذا القسم ما يتطلب أن تكون قوات البيشمركة الكردية وقوات الأمن القبائلية السُنية كقوات أمنية وطنية، والحرس الوطني السني العراقي يُعتبر قوة وطنية، والتي من شأنها أن تسمح لهذه القوات الأمنية تلقي المساعدة بصورة مباشرة من الولايات المتحدة”.
النص النهائي التي وُقع من قبل الرئيس، حذفت عبارة “وطنية”، ولكن لا يزال يُعترف بالسنة والأكراد ككيانات منفصلة. هذا القانون أخيراً يُغني الولايات المتحدة عن دعم رجل واحد، ويُبعد العراق عن المركزية، ونحو الاعتراف بأن العراق يتكون من ثلاث طوائف رئيسية، مع أهداف مختلفة. إلا أن الأمر استغرق بروز داعش لحدوث ذلك. مشروع القانون هذا يعني أن الولايات المتحدة أدركت أن دعم دولة مركزية قوية يقسم العراق فعلاً، ويدفعها للدمار؛ في حين أن دعم العراق كدولة فدرالية، يُمكن له الحِفاظ على وحدته.
خطوتان للأمام: حينما أصبح ضعف رئيس الوزراء العبادي وفشله واضحاً، تحايلت الولايات المتحدة أخيراً على بغداد وزودت البشمركة مساعدات هامة مُباشرة. فقد تم تمكين هذا بموجب قانون الدفاع الوطني المذكور أعلاه، والتي تنص بوضوح على أنه إذا لم يتم توزيع المساعدات بشكل مناسب، فإن الولايات المتحدة سوف تقدم مباشرة المساعدات والتي تتجنب القوانين القائمة فيما يتعلق بصادرات الأسلحة والمساعدات الخارجية. هذا الإجراء مهم لأنه يُظهر الولايات المتحدة وكأنها بدأت بمُتابعة سياستها الجديدة لدعم العراق الفدرالي. ونتيجة لذلك، فإن أدوات السياسة باتت أكثر توازناً في العراق هناك، بعدما كانت الإرادة السياسية غائبة.
خطوتان لازمتان للتقدم: للذهاب إلى الأمام، فأن الولايات المتحدة إذا أرادت أن تدعم العبادي بما يحتاجه، يجب ضمان دعمه وتطبيقه للدستور واقتسامه السلطة بشكل مناسب. تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى إتباع اتجاه جديد، حسب المنصوص عليه في /قانون الدفاع 2016/ حيث دعم كُلِ من السُنة والأكراد، في حال فشل العبادي للقيام بذلك. فقط من خلال تعزيز السنة سياسيا، وخلق شيئا على غرار “الحرس الوطني” للسُنة العراقيين – من المليشيات السُنية الحالية – وتمكينهم من أن يشكلوا منطقة فيدرالية، حيث دعم القوى السُنية سياسياً، يُعد جزءاً من هزيمة داعش في الموصل. في الوقت نفسه، ينبغي أن يكون دعم الولايات المتحدة “للسُنة والأكراد تحت شرط أنهم أيضا يجب أن يحترموا الدستور، ولا يمدون سُلطاتهم بستارة المبادىء الفيدرالية الدستورية.
ماذا سيحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة، ستقرر مستقبل العراق، سواء كان ذلك المُستقبل هو الفيدرالية، أو كونفيدرالي، أو يتفكك العراق. شيء واحد يبدو واضحاً، هو أن الولايات المتحدة لديها دور تلعبه، وتحتاج إلى دعم الفيدرالية التي يكفلها الدستور العراقي، من أجل عكس بعض الضرر الناجم عن دعمها السابق للمالكي.
نُشر هذه المقالة أصلاً في 18 أيار عام 2016، في Open Democracy.