انقر هنا لتنزيل الملخص السياسي
كان من الممكن لقلة قليلة من الناس أن يتوقعوا النهاية المأساوية للنظام القديم (او المنظومة القديمة) للشرق الأوسط والذي صمد لعقود امام التحولات الكبرى في ديناميات (ومعادلات) القوى العالمية. إن منطقة الشرق الأوسط التي كانت تعد مهداً للحضارات ومصدر حيوي للطاقة العالمية اصبحت الأن محطاً للأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وحيث لاتنتهي فيها النزاعات والحروب المدمرة وحركة السكان المشردة. تعاني البلدان الضعيفة والمفككة والفاشلة في الشرق الأوسط من صعوبة التأقلم مع التطرف القومي والديني والطائفي النامي. والسؤال هو: الى أين يتجه الشرق الأوسط وماهي موقف الجهات المحلية في هذا المسلك؟ يمكن أن نجد الإجابة من خلال دراسة ديناميات القوی في الشرق الأوسط والتي من المرجح أن تحدد النظام المقبل للشرق الأوسط.
النظام القديم للشرق الأوسط
قسم البريطانيون والفرنسيون منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الاولى وأنشأوا العديد من الدول العميلة الصغيرة والمتوسطة الحجم كوسيلة لتأمين مصالحهم في المنطقة. وفي هذه العملية وضعوا أساساً لنظام الشرق الأوسط والذي بقى في محله حتى الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة عندما هيمنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على المشهد وأنشأوا نظام عالمي ثنائي القطب. أشعلت العديد من الانقلابات والثورات المنطقة وتم الاطاحة بعدة مماليك من قبل الأنظمة القومية العربية أو في حالة إيران من قبل جمهورية اسلامية جديدة. كانت هناك كذلك نزاعات حدودية وحروب طويلة كحرب اسرائيل مع العرب وحرب العراق مع ايران. بالرغم من هذه التحولات والانجرافات ظلت حدود مابعد الاستعمار التي رُسمت بين بلدان هذه المنطقة ثابتة بشكل صارم.
المرحلة الانتقالية
كان ينبغي لنظام الشرق الأوسط أن ينهار مع سقوط الاتحاد السوفيتي في 1989 وبعد انتهاء الحرب الباردة كما حصل لنظام اوروبا الشرقية، إلا أنها بقيت ثابتة. وكان من المفترض أن يجلب الغزو العراقي في 2003 تغييراً شاملا ولكن موجة التغير بدأت من تونس في 2010. خلال فترة مايسمى بـ “الربيع العربي” اصبحت العديد من القوى العالمية والاقليمية والمحلية فاعلة ومتشابكة إلا انه لم تصل القوی المتشابكة الی حالة توازن مستقر حتى الان.
على الصعيد العالمي
بعد 1989 أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة التي كانت بوسعها أن تملأ الفراغ الذي تركه السوفياتيون. ومع ذلك فقصر النظر والتقلبات في السياسات الخارجية التي تبنتها ادارتي حزبي الجمهوريون والديمقراطيون جعلت من الولايات المتحدة غير قادرة على اتباع مسار لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط. مع ذلك تبنت إدارة جورج دبليو بوش نهج المحافظين الجدد ذا المدى الطويل لتشكيل النظام الجديد للشرق الأوسط ، إلا أن إدارة اوباما عكست التيار بابتعادها عن الشرق الأوسط مع قبول نفوذ قوى اخرى في المنطقة.
لاتزال رؤی إدارة دونالد ترامب المقبلة غير قابلة للتنبؤ من حيث سياستها في الشرق الأوسط، حيث تظهر في بعض الاحيان المشاعر والرغبات المجردة لشخص ترامب عن السياسة الخارجية غير متوافقة. فيبدو أنه يرغب بعلاقة ودية مع روسيا ويدعم اسرائيل وكذلك الرجال الأقوياء في تركيا ومصر ولكنه يعادي وبدون تحفظات إيران التي تعد واحدة من أقوى حلفاء روسيا.
روسيا مرت بعدة عقود مضطربة بعد 1989 ولكنها الان ظهرت من جديد كقوة كبيرة وعادت الى الشرق الأوسط عبر إيران ونظام الأسد في سوريا. تستثمر روسيا بشكل فعال في علاقات ثنائية اخرى مع تركيا والعراق ومصر واليمن وحتى المملكة السعودية العربية وبالتالي يمكن القول بأنه سيكون لها تأثير متزايد على تشكيل النظام الجديد للشرق الأوسط.
على الصعيد الاقليمي
برزت إيران ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي كقوة اقليمية الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط وهي القوة الاقليمية الوحيدة التي تبدو انها تملك استراتيجية واضحة تنفذها بشكل فعال وبعزيمة مطلقة. وقد طغت الأن إيران على عمليات صنع القرار في العراق وسوريا واليمن ولبنان. بالطبع هناك حدود لقوة إيران لمواجهة صعوباتها ولكنها في وضع جيد لتتحدى به منافسين اخرين من دول الجوار ورسم المستقبل.
شهدت تركيا مشاكل داخلية لفترة طويلة وبدأت تضعف بشكل متزايد الى حين انتعشت فيها اقتصادها على يد الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية الذي جاء الى السلطة في 2002. اصبحت تركيا وبسرعة قوة اقتصادية اقليمية هائلة مع نقاط قوة جغرافية سياسية مميزة، لكن ومع ذلك بقيت تركيا متشابكة في نزاعات داخلية وصراعات في القوة والاستقطاب التي أثرت سلباً على سياساتها في الخارج. لذا وعلى المدى الطويل لدى تركيا إمكانية أن تصعد وتهبط كقوة اقليمية. مع هذا ونظراً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي سيكون دوماً لتركيا دوراً في تشكيل الأحداث على الأقل عبر حدودها الجنوبية.
اكتسبت المملكة العربية السعودية ودول الخليج مجتمعة دوراً مميزاً بشكل أساسي من خلال ثرواتها والهوية العربية والانتماء السني. بالرغم من أنهم يبقون في النهاية معتمدين بشكل عام على الولايات المتحدة لغرض حمايتهم إلا انهم سيستمرون بالتأثير على الأحداث في انحاء الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
على الصعيد المحلي
هناك العديد من القوی المحلية (حكومات ذات سيادة وحكومات محلية غير سيادية وقوی غير حكومية) المؤثرة على نحو متزايد على ديناميات القوی الاقليمية ويجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار ضمن التنبؤات الخاصة بالنظام المستقبلي للشرق الأوسط.
القوی التي تمثل حكومات ذات سيادة وطنية (كالعراق) ضعُفت بالحروب والتجزؤات الداخلية والتدخلات الخارجية ولكن لديها القدرة أن تنمو بشكل مستقل على نحو متزايد والتصرف كجهة مهمة مؤثرة علی مسرحي القوی المحلية والاقليمية.
القوی التي تمثل حكومات محلية غير سيادية (كحكومة اقليم كوردستان العراق) لديها صفة رسمية قانونية أو دستورية داخل الدول التي تتواجد فيها ولكنها تتصرف كقوى مستقلة مع حلفائها الدولية الخاصة بها. قد تطمح هذه الجهات أن تُصبح دول سيادية أو تكتسب حقوق سيادية أعظم داخل الدول القائمة فيها وبذلك ستلعب دوراً في تشكيل الأحداث.
تشمل القوی غير الحكومية طائفة واسعة من الكيانات المحلية المرتبطة الأن ارتباطاً وثيقاً (كوكلاء أو حلفاء) بالجهات الاخرى. وتتراوح هذه الجهات بين تلك التي اكتسبت شرعية اجتماعية وسياسية داخل بلدانها كالمليشيات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتلك التي تُعد مجموعات متطرفة غير شرعية أو ارهابيين مثل تنظيم القاعدة والنصرة. كل هذه الجهات غير الحكومية قادرة على التصرف باستقلالية للتأثير على الأحداث ونقل موازين القوى وكذلك التصرف كوكلاء لقوى اقليمية أكبر.
النظام الجديد للشرق الأوسط وتغيير الحدود
خلال المرحلة الانتقالية وظهور نظام جديد للشرق الأوسط من الممكن أن تتغير الحدود الداخلية بين المجتمعات داخل مناطق النزاع ولكن الحدود الخارجية أقل عرضة منها للتغيير. هنالك بالطبع العديد من المجتمعات العرقية أو الدينية في الشرق الأوسط التي تملك طموحات اقامة دولة ولكن وباستثناء اقليم كوردستان العراق فان تحقيق اقامة دولة في المستقبل القريب غير وارد، في حين قد تستمر نضال شعوب وكيانات للاستقلال خصوصا لاولئك الذين لايجدون تحسن أكثر في عدالة السلطات ضمن الدول القائمة فيها.
في الختام
لايزال الشرق الأوسط في حالة تغيير مستمر ومن المحتمل أن يمر عقد أخر قبل الوصول الى ميزان في القوى فى النهاية. بعد ذلك قد تستمر النزاعات والمنافسات غير انها ستكون أكثر قابلية للتنبؤ والتحكم بها بشكل يسمح بتدفق ثابت في التجارة والسياسة.
يجب على صناع السياسة في العراق واقليم كوردستان الذين يرغبون في تصميم ومواصلة مسالكهم في المستقبل النظر بحذر في التيارات الخاصة بديناميات القوی وسياسات القوی العالمية والاقليمية قبيل إعداد استراتيجياتهم. سيجدون حتماً انفسهم بحاجة الى الاندماج وأحياناُ الى صف أنفسهم الى جانب قوى اقليمية وعالمية متنوعة وينبغي أن يتجنبوا الانجرار الى لعبة صراع العمالقة. إن صناع السياسة في العراق و اقليم كوردستان ليسوا في موقع لتغيير موازين القوى ويمكن أن يخرجوا أقوى إذا مابقوا محايدين نسبياً.
يجب على الحكومات الضعيفة مثل العراق (التي في الواقع فقدت سيادتها لصالح قوى خارجية) والحكومات المحلية غير السيادية كاقليم كوردستان العراق (التي تطمح أن تحصل على سيادة كاملة) أن تولي اهتماماً أكبر بالتهديدات التي تشكلها تنافس العمالقة الاقليمين والعالميين فضلاً عن خطورة القوی غير الحكومية والقادرة على تقويض مؤسسات الدولة. تستطيع المجاميع شبه العسكرية والمتطرفة، الشرعية منها والغير، أن تغمر الدول الضعيفة وتدفع بها الى الفشل في نهاية المطاف.
من أجل اجتياز المرحلة الانتقالية يجب على القادة في العراق واقليم كوردستان أن يستثمروا قدر أكبر في الطابع المؤسساتي لنظام الحكم ويمكن بذلك أن يصبحوا أقوى وأكثر مشاركة وان يعززوا قدراتهم في التأثيرعلی الأحداث لصالحهم ،وذلك إذا مابقوا مركزين على الحكم الرشيد وسيادة القانون.
انقر هنا لتنزيل الملخص السياسي
للإقتباس: Ala’Aldeen, D. (2016) The Future of the Middle East, MERI Policy Brief. vol. 3, no. 24.
الآراء الواردة في هذا المنشور تعکس آراء الكاتب ولا تمثل بالضرورة آراء مٶسسة الشرق الأوسط للبحوث.