- سعید بهاء المصري، منتدی الفكر العربي، الأردن
- عمار قحف، المدير التنفيذي، مركز العمران
- مكرم عویس، المركز اللبناني للدراسات
- شیروان یوسف، منصة دیفاكتو للحوار، سوریا
- أدموند راتكا، كونراد أدیناور شتفتنج، عمان، الأردن
جمعت هذا الحوار السیاساتي الذي عقد تحت عنوان ”الشرق الأوسط بعد الصراع: استراتيجيات الانتعاش وإعادة الإدماج“ خبراء من الأردن ولبنان وسوريا للتفكير في كيفية تحرك منطقة مزقتها الحروب والنزوح والتدخلات الخارجية نحو مستقبل أكثر تعاوناً وقائماً على القواعد. ورغم اختلاف المتحدثين في التركيز، كان هناك خيط مشترك يربط بينهم: لا يمكن تحقيق الانتعاش في المشرق من خلال عمل كل دولة على حدة، ولا يمكن فرضه من الخارج. فهو يتطلب مزيجاً من الإصلاح الداخلي والمصالحة الإقليمية وأطر عمل مصممة بعناية للتعاون الاقتصادي والاجتماعي عبر الحدود، يستعيد فيها الفاعلون المحليون دورهم الفاعل في مستقبلهم.
وقد حدد الميسر، إدموند راتكا، إطار النقاش من خلال المقارنة بين ”اللحظة الرهيبة من الصراع“ التي تمر بها المنطقة حالياً، خاصة في غزة، والحاجة طويلة الأمد إلى ”إطلاق العنان لإمكاناتها الكاملة“. واستعان بمناقشات التكامل الأوروبي، وكرر مراراً فكرة أن ”الشكل يتبع الوظيفة“: فبدلاً من الخطط الإقليمية الكبيرة والصارمة، قد تحتاج بلاد الشام إلى تعاون مرن قائم على الوظيفة، يبدأ من حيث توجد احتياجات ملموسة ومصالح متبادلة، ثم يبني هياكل حولها.
اقتراح الأردن: كتلة اقتصادية تضم بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية ترتكز على المصالحة
من الأردن، قدم سعيد المصري تشخيصاً شاملاً للهشاشة الإقليمية واقتراحاً جريئاً، وإن كان طموحاً، للمضي قدماً. وربط الركود الاقتصادي في الأردن، ومعدلات النمو المنخفضة التي تتراوح بين 2 و2.5٪، وارتفاع الديون والبطالة، بـ”الفوضى الدولية“ العالمية: حروب الرسوم الجمركية، والعقوبات، وضعف نظام التجارة المتعدد الأطراف. وشدد على أن الأردن لا يزال مستقراً سياسياً، لكن هذا الاستقرار يتعرض لضغوط مستمرة من الأداء الاقتصادي الضعيف والصدمات الإقليمية.
ووضع المصري الأردن في منطقة مضطربة, فسوريا ممزقة بفعل ”الهيمنة الأجنبية المتنوعة“، وهي تحاول الحفاظ على تماسك فسيفساء من المجتمعات المحلية تحت ضغط خارجي؛ والعراق يشهد تغييراً انتخابياً لكن ”الفصائل المسلحة“ لا تزال تشارك في صنع القرار؛ ولبنان يعاني من ”نظام مشلول“؛ والأراضي الفلسطينية تواجه الكانتونات في الضفة الغربية والدمار في غزة. وفي ظل هذه الصورة، وصف المجتمعات بأنها ”مجتمعات مصابة بصدمة“ تحتاج إلى إصلاح نفسي ومؤسسي.
وكان اقتراحه الأساسي هو منتدى الشام والعراق، الذي أُطلق مؤخراً في عمّان، ووصفه بأنه ”هيكل“ مزود بمخطط تنظيمي واختصاصات يمكن أن يدعم نظاماً هرمياً للحوار والمصالحة وتنسيق السياسات بين دول الشام والعراق. وهذا، في رأيه، ليس ممارسة مجردة: إنه أداة لبدء ”علاج أمراضنا الاجتماعية“ وترسيخ المصالحة في الهياكل الإقليمية.
والأهم من ذلك، أنه أصر على أن المصالحة يجب أن تكون مصحوبة بـ ”مكاسب للسلام“. يجب أن يشعر الناس أن السلام يؤتي بثماره. وهذا يتطلب تحريك اقتصادات العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين معاً، بدلاً من أن تكافح كل دولة على حدة. واستناداً إلى تجربة أوروبا بعد الحرب، اقترح أن تسعى المنطقة إلى إنشاء نسختها الخاصة من الكتلة الاقتصادية، التي لا تقتصر على بلاد الشام والعراق فحسب، بل تشمل أيضاً شبه الجزيرة العربية، لتشكل سوقاً شاملة. وقال إن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يلعب دور المحفز من خلال تقديم الحوافز والمساعدة في تصميم الآليات، تماماً كما بدأ التكامل الأوروبي بقطاعات ملموسة مثل الفحم والصلب.

وفي مداخلته اللاحقة، ركز المصري بشكل أكبر على الضغوط الديموغرافية والأمنية. وأكد أن الأزمات الاقتصادية في المنطقة تؤدي إلى نزوح واسع النطاق وتدفق اللاجئين، مما يزعزع الاستقرار بشكل خاص، مشدداً على أن التغير الديموغرافي هو ”كارثة“ بغض النظر عن أسبابه، لأنه يضع ضغوطاً على التماسك الاجتماعي والقدرة الاقتصادية. واستشهد بالأردن كمثال، مؤكداً أن الإجماع الوطني في عمّان هو رفض أي نقل قسري للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن أو أي مكان آخر، واصفاً ذلك بأنه أمر ضروري لحماية كل من الأردن وفلسطين.
وفي رأيه، فإن الأمن هو الأولوية الأولى في أي استجابة للأزمات: فالمؤسسات الأمنية القوية والمهنية قادرة على الحفاظ على تماسك المجتمعات حتى في ظل ضغوط اقتصادية شديدة. لكنه خلص إلى أن المنطقة يجب أن تكون قد بدأت بالفعل في ”التفكير في المستقبل“ والاستعداد لظروف أفضل، بحيث تكون الجهات الفاعلة الإقليمية جاهزة، عندما تسنح الفرص السياسية، لإعادة البناء معاً وإعادة تأهيل السكان الذين عانوا من صدمات سنوات الحرب.
وتتميز هذه الرؤية بطابعها التوسعي المتعمد. وهي تسعى إلى الجمع بين الأمن والمصالحة والتكامل الاقتصادي في مشروع إقليمي واحد، على أن يكون الاتحاد الأوروبي بمثابة مرساة له. والطموح كبير، والعقبات، التي تتراوح بين الأنظمة المتباينة والتنافس الخارجي والمؤسسات الإقليمية الضعيفة، كبيرة. ومع ذلك، تسلط حجج المصري الضوء على نقطتين مهمتين: مركزية المصالحة كعقلية، وليس مجرد سياسة؛ وضرورة التفكير في الانتعاش باعتباره مسعى إقليميًا مشتركًا وليس سلسلة من النضالات الوطنية المعزولة.
منظور لبنان: الاستقرار والحكم واللاجئون ودور الشتات
من لبنان، رسم مكرم عويس صورة لدولة عالقة بين الشلل الداخلي والصدمات الخارجية، لكنها لا تزال تتمسك بطموح التكامل الإقليمي. فمنذ عام 2019، يعاني لبنان من انهيار اقتصادي حاد، في أعقاب تأثير الصراع السوري وضعف الحكم المستمر منذ فترة طويلة. لقد تحطمت الآمال في أن يكون لبنان مركزًا لطرق التجارة والتعاون الإقليمي مرارًا وتكرارًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الانقسامات الداخلية وجزئيًا إلى ”العدوان المتكرر من الخارج“.
وبالنظر إلى المستقبل، حدد عويس عدة شروط مسبقة للبنان والمنطقة للتحرك نحو الانتعاش والتكامل. الأول هو الاستقرار: فمعظم دول المنطقة إما في حالة صراع أو ”على حافة الهاوية“، وهي بيئة ”لا تشجع“ على جذب رأس المال أو تشجيع المغتربين على العودة أو تعزيز التعاون الحقيقي. والثاني هو الاتفاق الداخلي والاعتماد على الذات: بدلاً من الاعتماد على التمويل والأجندات الخارجية، فإن المجتمعات بحاجة إلى تمويل نفسها وبناء آليات للحوار الداخلي الحقيقي، وتحسين الحوكمة، وتقوية مؤسسات الدولة.

كما شدد على أهمية معالجة الإرث غير المحلول بين الدول وداخل المجتمعات. وتشمل هذه المسائل ”التعامل مع الماضي“ من منظور حل النزاعات: توضيح مصير المفقودين والمختفين، ومعالجة قضايا اللاجئين والنازحين داخلياً، وتخفيف التوترات حول المجتمعات النازحة الكبيرة. ونظراً لأن اللاجئين يمثلون الآن حوالي ربع سكان لبنان، وبوجود ضغوط مماثلة في الأردن وسوريا، فإن النزوح غير المحلول يعتبر مشكلة إنسانية وكذلك عائقاً هيكلياً أمام الاستقرار. وبالنسبة لعويس، فإن إدارة شؤون النازحين داخلياً واللاجئين والعودة لا يمكن فصلها عن المصالحة وإصلاح الحوكمة.
وبروح أكثر تطلعاً للمستقبل، طرح عويس فكرتين ملموستين للتعاون. الأولى هي تشكيل فريق عمل حكومي دولي، متعدد الأطراف في الأفضل، يتناول ”القضايا العالقة التي لا تزال تشكل مشكلة بين دول المنطقة“، مثل النزاعات عبر الحدود، والملفات الأمنية، والتشريد. ويمكن أن يبدأ هذا الآلية على نطاق صغير، ثم يتوسع تدريجياً ليشمل البلدان الأكثر تضرراً، ويبني عادات للحوار المنظم حول المشاكل المشتركة.
والثانية أكاديمية واجتماعية: توسيع نطاق تبادل الطلاب بشكل كبير في جميع أنحاء المنطقة، ليس فقط في المجالات التقنية مثل الطب والهندسة، ولكن بشكل خاص في العلوم السياسية وعلم الاجتماع والحكم. ولاحظ أن الحروب قد أقامت ”جدراناً بين البلدان المختلفة“؛ وبصرف النظر عن أولئك الذين ينتقلون كلاجئين، نادراً ما يتفاعل المواطنون العاديون عبر الحدود بطرق مجدية. وقد يساعد تشجيع الشباب على الدراسة والعيش والعمل في البلدان المجاورة على إعادة بناء الثقة والألفة، كما فعل برنامج إيراسموس في أوروبا.
في وقت لاحق من المناقشة، سلط عويس الضوء على الدور المزدوج للجالية اللبنانية في الخارج. فمن ناحية، توفر التحويلات المالية الآن ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبنان، مما يخفف من تأثير الانهيار الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، فإن ”هجرة الأدمغة“ من الشباب الموهوبين والمهتمين بالإصلاح تمثل خسارة كبيرة. يرغب الكثيرون في ”العودة والاستثمار“، لكنهم لن يفعلوا ذلك حتى تتحسن ظروف الأمن والحكم وسيادة القانون. بدون هذه التغييرات، سيظل دعم المغتربين محدوداً وحذراً، ”مساعدة من بعيد“ بدلاً من إعادة الانخراط الكامل.
فيما يتعلق بالنزوح الداخلي، شدد على أن العودة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصالحة: لا يعود الناس إذا كانوا خائفين، وقد لا تسهل الحكومات العودة في غياب تسوية محلية حقيقية. تُظهر تجربة لبنان منذ الحرب الأهلية أن المظالم التي لم يتم حلها يمكن أن تجعل بعض حالات النزوح دائمة فعلياً بالنسبة لمجتمعات معينة. هنا، عرض أويس لبنان ضمناً كحالة يمكن أن تستخلص سوريا ودول أخرى دروساً منها، سواء فيما يتعلق بمخاطر النزوح الذي لم يتم حله أو بالحاجة إلى آليات مصالحة منظمة إلى جانب إعادة الإعمار الاقتصادي.

النقاش الداخلي في سوريا: الحوكمة والهوية والحاجة إلى تشكيلات محلية شاملة
مثل وجهات النظر السورية صوتان، هما شيروان يوسف وعمار قحف، اللذان أكدا أن البلاد تمر بمرحلة إعادة تفاوض عميقة وغير مؤكدة حول هويتها وصيغة حكمها ودورها الإقليمي.
وصف شيروان يوسف المجتمع بأنه يعيش في حالة من ”عدم اليقين“ بشأن مستقبله: فالناس في جميع أنحاء سوريا يتساءلون عما تريده الحكومة الجديدة، وماذا سيحدث في السويداء، وماذا سيكون مصير الأكراد والمجتمعات الأخرى، وهل هناك ضمانات ضد وقوع مذابح جديدة، وماذا سيكون الشكل العام للحكم والهوية الوطنية. ويتمثل العنصر الإيجابي، في رأيه، في أن سقوط النظام السابق قد غيّر شروط النقاش: فالسوريون يناقشون الآن خيارات ونماذج الحكم الداخلي، بدلاً من العيش في ظل دولة تهيمن عليها الأمن وتفرض رقابة على مثل هذه الأسئلة.
وأرجع العديد من التحديات الحالية، سواء التي يواجهها الأكراد أو العلويون أو الدروز أو الأقليات الأخرى أو المجتمع المدني، إلى سبب جذري واحد: النظام المركزي السابق الذي كان يهيمن على جميع جوانب الحياة، ويستضيف الجماعات المسلحة المزعزعة للاستقرار التي تسبب مشاكل لجيرانه، ويدخل في تحالفات تتعارض مع المصالح الداخلية. وقال إن سوريا كانت قد أصبحت ”مصدر إزعاج“ للمنطقة. وتتمثل المهمة الآن في تصميم نظام جديد يحول سوريا إلى مصدر استقرار لجيرانها بدلاً من أن تكون ناقلة للعنف والأسلحة والمخدرات.
وبالنسبة ليوسف، يتطلب ذلك إعادة تصور نموذج للحكم الداخلي يتميز بالتشاركية واللامركزية. ويمثل كل من الأطر الدولية مثل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، والاتفاقات المحلية مثل اتفاق 10 مارس بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية، والمناقشات الجارية حول الإدارة المحلية، في رأيه، ”فرصاً“ و”ضمانات“ يمكن أن ترسخ نظاماً جديداً، خاصة بعد الفظائع التي وقعت في مختلف أنحاء البلاد. وأكد أن أحد الشروط الأساسية هو أن يكون الانفتاح الدولي على الحكومة الجديدة في دمشق مشروطاً بالحكم الرشيد، مع فهمه في الوقت نفسه على أنه تشجيع لإثبات أن سوريا يمكن أن تكون مكاناً للاستقرار بدلاً من أن تكون عاملاً مزعزعاً للاستقرار في المنطقة. ويجب أن يأتي هذا الإثبات من خلال الحكم الشامل، وحماية حقوق الأقليات، واتخاذ القرارات المشتركة على المستوى المحلي، وليس من خلال العودة إلى المركزية الصارمة.
وعندما سُئل لاحقاً عن أفكار التعاون العملي، قال يوسف إنه قبل أن تزدهر مشاريع التنمية أو المبادرات العابرة للحدود، يجب أن يكون هناك تغيير في ”المناخ“ بين المجتمعات المجاورة. غالباً ما تحولت الهويات المتنوعة في بلاد الشام، العرقية والدينية والثقافية، إلى مصادر للعداء بدلاً من القوة. ولعكس هذا الوضع، اقترح البدء بحوار غير رسمي بين منظمات المجتمع المدني ومراكز الفكر عبر الحدود، وخلق مساحات يمكن أن تظهر فيها روايات جديدة تتجاوز ”الروايات القومية الكلاسيكية والتطرف الديني والأيديولوجيات الرجعية“.
كما شدد على إمكانات ”الاقتصادات العابرة للحدود المرنة“ والمناهج التعليمية المشتركة التي تقلل الفجوات في التفاهم المتبادل. لكنه عاد مراراً إلى الحاجة إلى حوار طويل الأمد ومتعدد المستويات، لا سيما بشأن العلاقات الأمنية، حتى لا يتم استخدام ”الأمن“ كذريعة للتآمر والشك المتبادل. وجادل بأن السوريين لن يتمكنوا من السفر إلى العراق أو الأردن أو لبنان للسياحة والتعلم والأعمال التجارية بدلاً من الفرار من المذابح واليأس الاقتصادي إلا في مثل هذا المناخ.
سوريا كمحور: الترابط وعودة اللاجئين وميثاق إقليمي ضد الكراهية
تناول عمار قحف الملف السوري من زاوية جيوسياسية أكثر وضوحاً، وربط التغيير الداخلي بالترابط الإقليمي وتصميم نظام جديد في بلاد الشام. وذكّر بأن المتحدثين في منتدى بلاد الشام والعراق السابق حذروا من ”وهم الاستقرار“ و”الصراع المتجمد“ في المنطقة، وهي أوضاع تبدو هادئة من بعيد ولكنها قد تنفجر في أي وقت، مما يؤدي إلى سيناريوهات ”خاسرة للجميع“. وأشار إلى أن إحدى المدارس الفكرية تدعو إلى ”التكيف مع صراع طويل الأمد وقليل الشدة“، كما لو أن عدم الاستقرار حالة دائمة.
وفي قراءته، فإن التطورات الأخيرة في سوريا قد خلقت لحظة جديدة. فقد ”استولى“ أحد الأطراف فعلياً على السلطة، مهمشاً مسار جنيف/2254 التوفيقي، وخلق واقعاً مختلفاً على الأرض. وقد فسر قحف ذلك ليس فقط على أنه انتكاسة لعملية الانتقال التفاوضية، بل أيضاً على أنه ”فرصة“ محتملة لإعادة تموضع سوريا كمركز للترابط الإقليمي، شريطة ألا تكون بعد الآن ممراً للأسلحة أو الكابتاغون أو الميليشيات، وأن تركز بدلاً من ذلك على التجارة والبنية التحتية والأمن التعاوني.
وجادل بأن إزالة معظم الميليشيات الإيرانية من الأراضي السورية قد غيرت بالفعل ”عدم النظام“ الإقليمي، مما فتح المجال لعلاقات أكثر صحة مع الجيران والقوى العالمية على حد سواء. وفي هذا السياق، يرى قحف آفاقاً لإنشاء خطوط أنابيب تربط العراق بالبحر الأبيض المتوسط عبر سوريا، وزيادة التجارة، ومشاركة شركات أردنية وتركية ولبنانية ومصرية في إعادة الإعمار والبنية التحتية. وبالنسبة له، فإن هذه المشاريع الملموسة هي التعبير المادي عن الترابط الذي يمكن أن يدعم ”اتفاقاً جديداً بين بلاد الشام والعراق“، ربما على غرار أطر الجوار الأوروبية جزئياً.
كما عرض قحف خطة تعاون متعددة المستويات. على المستوى الاستراتيجي، مشددا على التعليم باعتباره استثماراً طويل الأجل، داعياً إلى برامج المنح الدراسية وتبادل الطلاب في إطار منتدى المشرق والعراق لتدريب الجيل القادم من الدبلوماسيين والمفكرين السياسيين في سوريا والأردن ولبنان وفلسطين والعراق. على المدى القصير، ركز على ثلاثة مجالات:
- عودة اللاجئين: دعا إلى إطار إقليمي لعودة اللاجئين الطوعية والكريمة، بحجة أن المحادثات الحالية تجري ”بشكل فردي“ وليس بطريقة منسقة. وسيشمل هذا الإطار سوريا والعراق والأردن ولبنان، وسيتناول الشروط القانونية والضمانات الأمنية والترتيبات العملية للعودة.
- التوأمة في مجال الحكم المحلي: تفتقر العديد من الدول في المنطقة إلى مؤسسات قوية وقدرات إدارية. ومن خلال ”توأمة“ الحكومات المحلية عبر الحدود، وتبادل الخبرات، وتدريب الموظفين، ومواءمة بعض الممارسات، يمكن للدول أن تدعم بعضها البعض في النمو المؤسسي بدلاً من ترك المناطق الأضعف معزولة.
- خطاب الكراهية ومكافحة التمييز: اقترح مبادرة إقليمية لمكافحة خطاب الكراهية وتعزيز قوانين مكافحة التمييز، بحجة أن مجتمعات المنطقة ”عاطفية للغاية“ وتتأثر بشدة بوسائل التواصل الاجتماعي. يمكن أن تساعد الرسائل الإيجابية والمنسقة من قبل القادة الدينيين والمجتمعيين والسياسيين، فضلاً عن الرموز والمنتجات الثقافية المشتركة، في تخفيف التوترات.
في الجزء المخصص للأسئلة والأجوبة، تحدث بإسهاب عن فكرة المصالحة ”دون نسيان“. وأشار إلى أن السوريين وجيرانهم قد يحتاجون إلى ”المغفرة دون نسيان“: لبناء ذكريات ورموز وطنية تردع الديكتاتوريين في المستقبل وترسل إشارة بأن الجرائم ستُحاسب، مع الاستمرار في خلق مساحة للمضي قدماً. ولا يكفي ”اتفاق دمشقي“ وحده؛ بل هناك حاجة إلى اتفاق إقليمي شامل يحمي المساواة في المواطنة وحقوق جميع المكونات، نظراً لتشابك الروايات في المنطقة.
كما تطرق قحف إلى مسألة ”المفسدين“ و”المنظمين“ في أي مشروع في بلاد الشام. واعتبر أن العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة وسياسات إيران (بما في ذلك العمليات الإلكترونية ودعم الوكلاء) من العوامل الرئيسية المزعزعة للاستقرار، وأشار إلى قطر من بين الأطراف التي ساهمت في تعقيد الوضع مؤخراً. أما بالنسبة للجهات المنظمة، فقد جادل بأن جهات فاعلة مثل السوريين والعراقيين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين يجب أن تكون في المركز، وأن تسعى إلى إقامة علاقات متوازنة مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند دون تحويل المنطقة إلى ساحة معركة لخلافاتهم.

النزوح والديموغرافيا ومركزية الأمن والمصالحة
أعادت تدخلات الحضور وردودهم النقاش إلى أحد التحديات العابرة للحدود الأكثر إلحاحاً في المنطقة: النزوح. أشار أحد المشاركين إلى أن العراق وسوريا كانا ”بؤرة الاضطرابات“، مع وجود أعداد كبيرة من الأشخاص ذوي الإعاقة والنازحين، وشكا من أن الأحزاب السياسية عندما تتولى السلطة، غالباً ما يصبح النزوح ”آخر ما يشغل بالها“، في حين أنه يجب أن يكون أول ما تشغل بالها. وأبرز سائل آخر المذابح الأخيرة في السويداء واللاذقية، وسأل عن الضمانات التي تمنع تكرار فظائع مماثلة في الأحياء الكردية في حلب مثل الشيخ مقصود.
وأثارت هذه المخاوف مزيداً من التفكير من قبل المتحدثين. واعترف قحف بوجود خطر حقيقي من العنف الطائفي، لكنه أشار إلى التهدئة الأخيرة في الشيخ مقصود كدليل على أن القيادة السياسية يمكنها أحياناً مقاومة دوامة الانتقام. وعاد إلى الحاجة إلى ثقافة إقليمية للمواطنة المتساوية وأطر قانونية ضد التمييز من شأنها أن تمنح المجتمعات المزيد من الثقة في سلامتها.
وأكد عويس مجدداً أن النازحين داخلياً لا يعودون ببساطة بمجرد توقف القتال؛ فهم بحاجة إلى الأمن والمصالحة وغالباً إلى ضمانات ملموسة. وبدون ذلك، فإن النزوح قد يصبح شبه دائم، كما تظهر تاريخ لبنان نفسه.
وأكد المصري مجدداً أن تغيير التركيبة السكانية من خلال النزوح القسري هو ”كارثة“ بأي شكل من الأشكال. وحذر من أن تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين أو النازحين داخلياً إلى مجتمعات تعاني من ضغوط اقتصادية يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التوترات وتشويه التوازنات الديموغرافية، حتى في حالة وجود تعاطف مع الفارين من النزاع. وجادل بأن معارضة الأردن الشديدة لأي نقل قسري من الضفة الغربية إلى الأردن لا تعني العداء للفلسطينيين، بل هي دفاع عن استمرارية كل من الأردن وفلسطين.
وفي هذا السياق، فإن تركيز الجلسة المتكرر على الأمن أمر مهم. وقد تعامل العديد من المتحدثين، ولا سيما المصري، مع المؤسسات الأمنية الفعالة باعتبارها شرطاً أساسياً لكل شيء آخر، من تنمية اقتصادية ومصالحة وعودة اللاجئين. وفي الوقت نفسه، حذر يوسف وقحف من أن ”الأمن“ يجب إعادة صياغته: فلا ينبغي أن يكون أداة تستخدمها مجموعة ضد أخرى، ولا ذريعة للقمع، بل جزءاً من إطار أوسع يشمل الحوكمة الشاملة وحماية الحقوق والتعاون عبر الحدود.
المنظمون والثقافة ومسألة الفاعلية المحلية
اختتمت الجلسة بالعودة إلى السؤال حول من سيقود الانتعاش في بلاد الشام. سأل راتكا عن الجهات الفاعلة التي يمكن أن تلعب دور المنظمين وتلك التي يمكن أن تلعب دور المفسدين في أي إطار إقليمي ناشئ. أجاب كحف بالتأكيد على أهمية ”الفاعلية المحلية“: يجب على مجتمعات بلاد الشام استعادة زمام المبادرة بدلاً من انتظار القوى الخارجية لتصميم مستقبلها. وأشار إلى أن دول المنطقة تجرب بالفعل سياسات خارجية أكثر توازناً، حيث تحافظ على علاقاتها مع واشنطن وموسكو وبكين وغيرها دون الانحياز الكامل لأي معسكر. ويمكن لهذا التنوع الدبلوماسي، إذا كان مرتكزاً على التعاون المحلي، أن يدعم نظاماً إقليمياً أكثر استقلالية.
وفي ملاحظاته الختامية، أشار راتكا إلى أنه على الرغم من التوقعات بأن تركز الجلسة في المقام الأول على البنية التحتية، إلا أن المحادثة ركزت أكثر على الثقافة والروايات والتعليم والمصالحة. واستشهد بجان مونيه، أحد مهندسي التكامل الأوروبي، مذكراً أنه لو كان مونيه يستطيع أن يبدأ من جديد، لكان ”بدأ بالثقافة“ بدلاً من الفحم والصلب. ويشير تركيز اللجنة على تبادل الطلاب والمناهج الدراسية المشتركة والروايات الشاملة والحوار الاجتماعي إلى أن بعض المتخصصين في المنطقة قد يشاركون هذا الرأي.
الخلاصة
قدمت هذه الجلسة نقاشاً متعمقاً وتطلعيّاً حول كيفية تجاوز المنطقة الصراع والتوجه نحو التعافي وإعادة الإدماج. اتفق المشاركون على عدة مواضيع رئيسية:
- يتطلب التعافي حلولاً إقليمية، وليس وطنية فقط. فالنزوح والأمن والتجارة والتحديات البيئية والديموغرافية تمتد عبر الحدود ولا يمكن معالجتها بشكل منفصل.
- الإصلاح الداخلي والحكم الرشيد أمران لا غنى عنهما. بدون مؤسسات أكثر شمولية ومسؤولية وفعالية، من غير المرجح أن يعود اللاجئون أو الجاليات في الشتات بأعداد كبيرة، وسيظل الدعم الخارجي محدوداً.
- المصالحة و”التعامل مع الماضي“ ليسا ملحقين اختياريين، بل عنصرين أساسيين في أي تسوية مستدامة. وهما مرتبطان ارتباطاً مباشراً بآفاق العودة الآمنة والتماسك الاجتماعي والاستقرار على المدى الطويل.
- التكامل الاقتصادي والترابط – من خلال الأسواق وخطوط الأنابيب والممرات التجارية والاقتصادات العابرة للحدود المرنة – يمكن أن تؤدي ألى ”مكاسب السلام“ التي تجعل المصالحة ملموسة بالنسبة للناس العاديين.
- التعليم والثقافة وتبادل الشباب استثمارات قد تكون بطيئة، لكنها أساسية لتغيير العقليات، وكسر الحواجز بين المجتمعات، وتشكيل جيل جديد قادر على السياسة التعاونية.
المقترحات المطروحة على الطاولة، من إنشاء سوق بين الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية بدعم من الاتحاد الأوروبي، إلى أطر إقليمية لعودة اللاجئين، إلى فرق عمل حكومية دولية وتوأمة الحكم المحلي، هي مقترحات طموحة وستواجه عقبات سياسية وعملية خطيرة. ومع ذلك، فإن الحوار نفسه مفيد.
بدلاً من التعامل مع بلاد الشام على أنها مجرد ساحة للتنافس بين القوى العظمى أو سلسلة من الأزمات المعزولة، تعامل المشاركون في الحوار معها على أنها فضاء سياسي مشترك يمكن للجهات الفاعلة المحلية أن تحدد فيه أجندتها الخاصة، بل ويجب عليها ذلك. وبهذا المعنى، قد يكون أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الحوار ليس أي اقتراح محدد بقدر ما هو الإصرار على أن نظاماً إقليمياً أكثر تعاوناً وقائماً على القواعد أمر ممكن، وأن لبناته الأساسية موجودة بالفعل في الأفكار والشبكات والمؤسسات التي كان المشاركون يحاولون ربطها معاً.
ملتقی الشرق الأوسط 2025
الشرق الأوسط بعد الصراع: سبل الانتعاش والتكامل والفعالية المحلية

