Back

ساحات المعارك بين أميركا وإيران: من اليمن إلى العراق

الضغط الإيراني على الولايات المتحدة، عبر الوكلاء العرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مستمر منذ مدة، لكنه بات يشتد منذ حرب 7 أكتوبر (تشرين الأول) في غزة، وقد يتصاعد أكثر بعد الهجوم الأخير على الحوثيين في اليمن. بينما كان الحوثيون يطلقون طائرات مسيّرة وصواريخ على سفن ومنشآت حلفاء الولايات المتحدة، شنَّت الجماعات المسلحة العراقية الموالية لإيران، المعروفة باسم فصائل المقاومة الإسلامية، أكثر من 120 هجوماً مباشراً على القوات الأميركية في كل من العراق وسوريا. حتى الآن، تحمَّلت الولايات المتحدة الضغوط ونفَّذت عمليات انتقامية محسوبة ضد وكلاء إيران فقط، وبعيداً عن حدود إيران. ومن الواضح أنهم يرغبون في تجنب التصعيد الكلي، بينما يأملون في أن توافق إيران على تسوية أمنية بطريقة أو بأخرى.

يبدو أن إيران مصممة على مواصلة الضغط، وطرد الوجود العسكري الأميركي في نهاية المطاف من المنطقة، خصوصاً في العراق وسوريا. فهم لا يعدّون هذا الوجود الأميركي تهديداً استراتيجياً لأمنهم القومي فحسب، بل أيضاً يعدّونه حاجزاً أمام هيمنتهم في بلاد الشام وخارجها. إن إخراج الولايات المتحدة من العراق سيساعد أيضاً في إضعاف الدعم الأميركي لعرب الخليج، وربما يسهل إعادة هيكلة البنية الأمنية في المنطقة وفقاً للشروط الإيرانية.

من الواضح أنَّ الإيرانيين لا يستخفون بتصميم الأميركيين على البقاء في المنطقة، أو استعدادهم للعمل والرد عسكرياً. وبالتالي، يحاول الإيرانيون تجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع القوات الأميركية، من خلال قصرها على وكلائهم العرب الذين يمكنهم الاستغناء عنهم. ومع ذلك، ترى طهران فرصة، خلال عام الانتخابات هذا، لإجبار الولايات المتحدة على انسحاب متسرع ومهين من العراق، على غرار خروجها من أفغانستان. ففي نهاية المطاف، يبدو أن الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة تركز على التحديات في الداخل، وفي أوروبا والصين. ربما يكون العراق مهماً للولايات المتحدة، ولكنه ليس أولوية قصوى.

ونتيجة لذلك، فإن العراق عالق الآن بين هيمنة جارة قوية قوضت سيادته (إيران)؛ والقدرة الساحقة للقوة العظمى العالمية (الولايات المتحدة الأميركية) التي يمكن أن تعاقبه حتى الفشل. ومن المثير للاهتمام أن إيران ليست ضد الوجود الدبلوماسي والاقتصادي الأميركي في العراق، لأن هذا يخدم مصالحها بشكل أفضل. تستخدم إيران العراق للوصول إلى العالم الغربي، وتجاوز العقوبات الأميركية ودعم وكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وفي المقابل، لا ترغب الولايات المتحدة في سحب قواتها البالغ عددها 2500 جندي من العراق في هذا الوقت الحرج، خصوصاً بالشروط الإيرانية. بالنسبة للولايات المتحدة، فإنَّ وجودها العسكري في العراق له أهمية استراتيجية كبيرة لمحاربة «داعش»، ومراقبة إيران عن كثب وتقديم الدعم لقواعدها في سوريا. كما أنها وفرت المظلة الأمنية والبنية التحتية العسكرية المطلوبة لتمكين شركاء التحالف الآخرين الذين دعموا العراق خلال الأوقات الصعبة.

من الواضح أنَّ الحكومة العراقية، بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، تشعر بقلق بالغ إزاء التنافس المزداد بين الولايات المتحدة وإيران في العراق، الذي يشتت الانتباه ويقوض سلطة الدولة العراقية. يدرك القادة السياسيون في العراق أن بلادهم ليست مستعدة بأي حال من الأحوال، لرؤية الولايات المتحدة وشركاء التحالف يغادرون، ولا تزال غير قادرة على منع التهديدات الأمنية من «داعش» أو من جماعات فصائل المقاومة المسلحة الأكثر تطوراً. والأهم من ذلك أن العراق ليس إيران. إنه معرض للغاية بحيث لا يمكنه البقاء على قيد الحياة في عزلة مالية ودبلوماسية عقابية تترافق مع انسحاب أمريكي غير ودي.

علاوة على ذلك، فإن احتمال انسحاب الولايات المتحدة مقلق للغاية بالنسبة للكرد والعرب السنة، الذين يعتقدون أنهم سيكونون التالين على خط النار. وقد تم استهداف أحزابهم (وقادتهم) سياسياً باستمرار في بغداد من قبل الأحزاب الموالية لإيران التي تهيمن على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وسيطرت مؤخراً بشكل كامل على مجالس المحافظات في جميع أنحاء العراق (باستثناء كردستان). ومن المثير للقلق أن الفصائل أسقطت قنابل بالقرب من مكاتب القادة الأكراد، التي من الواضح أنها بمثابة علامة تحذير لما قد يحدث بعد ذلك.

ليس سراً أنَّ الجهات الفاعلة غير الحكومية الموالية لإيران تتصرف الآن كأنَّها الدولة، وتفرض سياسات بينما تعيق الإصلاح. وقد أيَّد الأعضاء الموالون لإيران في داخل الإطار التنسيقي (الائتلاف الحاكم) علناً نهج الحكومة لحل الأزمة، ولكن يعتقد أنَّهم غذوا حملة شعبوية مناهضة للتحالف في الوقت نفسه. وفي حين وصف رئيس الوزراء الهجمات على الوجود الأمريكي بأنها «إرهابية»، عدّها كثير من أعضاء الإطار التنسيقي شرعية وعادلة.

فالآن، ليس أمام الحكومة العراقية خيار سوى صياغة ومتابعة عملية واقعية تضع مصلحة العراق أولاً، وتطوق العراق من المنافسات العابرة للقارات. يمكن للعراق ويجب عليه التفاوض على صفقة مع الولايات المتحدة والتحالف الأوسع، من دون فرض جداول زمنية أو مواعيد نهائية تعسفية. ويجب أن ينخرطوا في حوار شامل، يغطي جميع قطاعات الشراكة، بما في ذلك المسائل الأمنية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والثقافية. وفي المقابل، يتعين على الولايات المتحدة أن تتحلى بالصبر الاستراتيجي، وأن تمنح الحكومة العراقية مساحة لتحقيق الأهداف المشتركة بطريقتها الخاصة وفي وقتها الخاص. إنَّ الضغط على حكومة يقودها الشيعة لاختيار أحد الجانبين لن يؤدي إلى اختيار العراق للولايات المتحدة على إيران.

وأخيراً، لا ينبغي للإيرانيين أن يقوّضوا الدولة العراقية أكثر من ذلك، وإلا فإنَّهم يخاطرون بتصعيد الوضع خارج سيطرتهم وعلى حساب بلدهم. ومن المعروف أنهم يخشون احتمال التعامل مع دونالد ترمب الأكثر تشدداً، في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. لذلك، من الأفضل لهم عدم إضعاف أيدي إدارة بايدن الحالية، أو إساءة قراءة تصميم الولايات المتحدة على البقاء في العراق وتصميمها على تجنب تكرار سيناريو أفغانستان.

تم النشر في صحیفة الشرق الأوسط 14 يناير 2024.

Comments are closed.