“حتى بداية القرن الماضي، كانت الأغلبية المُطلقة من ضحايا الحروب من العسكريين، لكن منذُ وقتئذ وحتى الراهن، وبسبب التغيير الجوهري في أدوات ونوعية الحروب وسلوك المُتحاربين؛ فأن قُرابة 90-95% من ضحايا هذه الحروب الحديثة باتوا من المدنيين”. جاء ذلك ضمن ورشة التدريب والتوعية الثانية لقوات البيشمركة للامتثال ل(القانون الدولي الإنساني)، التي عُقدت في مقر مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث (ميري) بتاريخ 5 نيسان 2016، بتعاون مع وزارة البيشمركة ومُنظمة “نداء جنيف” وحضور للمُنظمة الدولية للصليب الأحمر.
جاءت هذه الورشة استكمالاً للورشة الأولى التي عقدتها مؤسسة ميري في 29 كانون الثاني 2016؛ مع عدد من القادة السياسيين والعسكريين في إقليم كوردستان العراق: في إطار المساعي لمأسسة امتثال القوات المُسلحة في الإقليم لقواعد القانون الدولي الإنساني، وحضرها قادة “محاور القِتال” وقادة الفرق العسكرية ونوابهم؛ من الذين يُديرون المعارك بشكل فعلي مُباشر، ويعتبرون الموجهين الفعلين للسلوك العام للقوات المُقاتلة، والجهة القانونية والمؤسساتية المُتحملة لمسؤولية أي أنتهاك مُباشر من قِبل قطاعتهم العسكرية.
صحيح أن قوات البيشمركة في إقليم كوردستان العراق تخوض حرباً ضد تنظيم داعش الإرهابي، و هي حرب تكتسب شرعيتها من مبدأ “الدفاع عن النفس”، وفي أحدى أوجهها “حرب دفاع عن الوجود”؛ إلا أن كُل ذلك لا يُشرعن أي تجاوز للقيّم الإنسانية، خصوصاً بحق المدنيين غير المُنخرطين بشكل مُباشر في الحرب. حيث ذكّرت مُؤسسة ميري بأنه ثمة محاكم في البلدان الديمقراطية عُقدت بحق مُرتكبي “جرائم الحرب” بعد عشرات السنوات من مُمارستهم لأفعالهم، وأن هذا الحق لا يسقط بالتقادم، لا بحق الأفراد ولا بحق المؤسسات التي ينتمون إليها، مُذكرة بأن “المُرتكب” لهذه الجرائم يُمكن مُحاكمته حتى لو كان “ميتاً”، وأن “العار” سيلاحق اسمه في “وثائق التاريخ”.
مُنذ سنوات، وهذه المؤسسات والمُنظمات الشريكة على تعاون وثيق مع الأحزاب الكُردية، وهي تسعى راهناً لتواصل حميم مع “مؤسسات الحُكم” في إقليم كوردستان، كالبرلمان ورئاسة الإقليم والحكومة، وبتعاون وتكامل مع مؤسسات ومُنظمات المجتمع المدني في الإقليم. حيث وإن كانت قوات البيشمركة قوة دستورية من حيث المنشأ والهوية، ومُلتزمة من حيث القانون والخيار الأخلاقي والقيمي بالقانون الدولي الإنساني، وإن كانت تخوض حرباً راهنة فُرضت على إقليم كوردستان العراق من قِبل تنظيم داعش الإرهابي، حيث لا يخضع مُقاتلوه لأي تنظيم مؤسساتي واضح المعالم، ولا يمتثلون لأي قانون أو قواعد سلوكية بذاتها؛ إلا أن كُل ذلك لا يعني بأن قوات البيشمركة لا يُمكن، ولم ترتكب، انتهاكات ل”قواعد سلوك المُحاربين”، في الحرب التي تخوضها راهناً، وإن كانت هذه الارتكابات محدودة وفردية.
ركزت الورشة على أهمية تطوير منظومة “قواعد الاشتباك” التي تصدر مع كُل أمر بالتحرك العسكري. وأن يكون ذلك التطور مُطابقاً لطبيعة تطور وتغير هذه “القواعد” على المستوى العالمي. إن تطور آليات وقدرات قوات البيشمركة على الفرز وقياس التناسب بين الأهداف العسكرية ونظيرتها المدنية، بما يسمح بأكبر قدر مُمكن لحماية المدنيين والمُنشآت المدنية والبُنية التحتية، هي المعايّر الجوهرية لضبط وتطور “قواعد سلوك القِتال” هذه. حيث دار نقاش مُستفيض حول الآلية التي يُمكن معها تحويل هذه الآراء والنقاشات إلى ديناميكيات عملية في مؤسسات البيشمركة، وبالذات منها التعليمية والتدريبية، بُمشاركة مختلف المؤسسات، كوزارات الحكومة والمحاكم العامة والإعلام والمُنظمات المدنية.
على أنه ثمة تفاصيل يجب مُتابعتها ومناقشتها على الدوام، حتى لا ينحصر التداول بشأن القضايا العمومية وشبه البديهية، كالدفاع عن النفس في مواجهة الإتهامات أو مُقارنة سلوكيات قوات البيشمركة بأفعال تنظيم داعش الإرهابي، کتحديد هوية الأهداف التي يُسمح باستهدافها أثناء الاشتباك، والتميز بين الحرب بحيزها الشرعي وبين “آثارها الجانبية”، التي يُمكن أن تكون كارثية على البيئات المحلية الأهلية. فمُحاربة تنظيم داعش المُحتل لمدينة الفلوجة راهناً يُعتبر عملاً مشروعاً، لكن ثمة تأثيرات جانبية فظيعة على هذه المدينة وسُكانها، حيث تواجه شبه مجاعة عامة راهناً، جراء مُحاصرة المدينة من قِبل المُحاربين.
لم يكن من خارج التداول أيضاً أن يتسأل الشُركاء عن العُمر المسموح به لينتسب أحد المواطنين الكوردستانيين إلى قوات البيشمركة، أو الماهية التي يجب أن يُميز بها قوات البيشمركة بين “الجاسوس” لصالح القوات المعادية للبيشمركة، وبين القواعد الاجتماعية المدنية التي يُمكن أن تكون متعاطفة مع هذه القوات المعادية.
وأيضاً التأكيد على أن الحرب الشرعية ضد جماعة أو تنظيم ما، لا يعني بأنه صك مفتوح لمُمارسة العُنف بشكل مفتوح، فمستوى وطبيعة هذا العُنف يجب أن تكون مضبوطة ومُناسبة، وأن تتوقف مُباشرة بعد حسم المعارك، وأن لا تمس البُنية التحتية ومُمتلكات المدنيين بأي شكل. وفي نفس الإطار، التذكير بأن القانون الإنساني الدولي لا يُعاقب على انتهاكات المُمارسة فحسب، بل أنه ثمة انتهاكات تقع في خانة “الإهمال”؛ خصوصاً بحق المدنيين الذين يُمكن أن يواجهوا أوضاع صعبة أثناء المعارك، فأهمالهم قد يدخل في خانة الإنتهاكات.
توصيات.
أكد الشُركاء المُنخرطون في هذه الورشة على أن اسلوب التداول الذي تمتاز به في شراكتها مع مؤسسة “ميري”، قائم على تحويل جميع النقاشات والآراء التي تُطرح في نشاطات وأعمال المؤسسة مع شركائها، يجب أن تتحول إلى أفعال مُباشرة، عبر تحويلها إلى تقارير وبرامج وتوصيات، ومن ثُم مُخاطبة مُختلف الجهات المعنية بالأمر، وبالذات مؤسسات الحُكم المسؤولة. وكانت التوصيات الرؤى التالية من قِبل المُجتمعين:
أولاً: هدف هذه الورشات ليس للإشادة بقوات البيشمركة أو إقرار تمايزها عن إرهابي داعش، بل بناء الآليات قانونية ومٶسساتية، حتى لا تقع قوات البيشمركة في انتهاكات ما، مهما كانت صغيرة أو فردية. وفي حال حصولها، أن يكون ثمة آليات واضحة للمحاسبة.
ثانياً: الإقرار بأن جميع الأفراد والمؤسسات العسكرية قابلة للوقوع في انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وأن المسألة هي في كيفية تطور البُعد المؤسساتي للملاحظة والمحاسبة، وهو ما يميز الأنظمة الديمقراطية عن نظيرتها في البُلدان الشمولية.
ثالثاً: أهمية أن يوقع كُل عضو من قوات البيشمركة على ورقة تتضمن معرفته ومسؤوليته التامة عن أي انتهاك لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني، يُمكن أن يمارسه كفرد أو تقوم به المؤسسة التي يعمل بها أثناء وقوع ذلك الإنتهاك، مُقدراً بأن عدم الاستطاعة على فعل ذلك بشكل راهن ومُباشر الآن، لا يعني عدم السعي إليه بشكل حثيث، ولو طال ذلك لسنوات.
رابعاً: استمرار التعاون بين مؤسسة ميري وشُركائها الدوليين – مُنظمة نِداء جنيف والصليب الأحمر الدولي- مع وزارة البيشمركة في إقليم كوردستان العراق، لتمتين آليات العمل المُشترك وتحقيق الأهداف المأمولة.
خامساً: إقليم كوردستان رُغم مُعضلاته السياسية والاقتصادية والعسكرية الحالية، إلا أنه كيان وتشكيل سياسي يتجه لأن يكون ديمقراطياً بهويته ومؤسساته، في المُستقبل المنظور، وأن جميع هذه الورشات والنشاطات يجب أن تكون خطوات في هذا الطريق.
سادساً: عدم المُقارنة سلوكيات البيشمرگة حتی بسلوكيات جيوش بعض الدول الإقليمية، والتذكير الدائم بأن تمتين وتطوير آليات المُراقبة ومؤسسات المُحاكمة والعِقاب هي ما يجب أن تکون محور النقاش والإهتمام.
سابعا: أهمية بناء وحدة داخلية في وزارة البيشمركة مهمتها تدريب وتوعية عناصر ومٶسسات البيشمرگة علی الإمتثال للقانون الإنساني الدولي والمراقبة الحثيثة لسلوكياتها الميدانية.