العراق: بناء الدولة وسط الديناميكيات السياسية المتطورة
- السيد عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة
- طارق جوهر سرمامي، أكاديمي (مدير الجلسة)
مقدمة وسياق
في حوار سياساتي بارز خلال ملتقى مؤسسة الشرق الأوسط للأبحاث (ميري)، استضافت الجلسة السيد عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة وأحد أبرز قيادات الإطار التنسيقي وائتلاف إدارة الدولة في العراق. أدار النقاش الأكاديمي طارق جوهر سرمامي، حيث وفرت الجلسة منصة موسعة لمناقشة مسار بناء الدولة في العراق، وتطور نظام الحكم الفيدرالي، وعلاقات الحكومة المركزية مع الأقاليم، ومستقبل التماسك السياسي في المجتمع العراقي المتنوع. وجاء هذا النقاش في ظل التحديات الدستورية والهيكلية المستمرة التي تواجه العراق منذ 2003، وسط تحولات متواصلة في علاقات بغداد وأربيل. واعتبر الحكيم أن المرحلة الراهنة تمثل لحظة “تفاؤل حذر”، حيث بدأت ملامح النضج السياسي والاستقرار المؤسسي بالظهور بعد عقود من التقلب والتشرذم.
بناء الدولة والاستقرار والتحديات المؤسسية
استهل الحكيم حديثه بالتأكيد على أن نجاح بناء الدولة في العراق مرهون بوجود بيئة سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية مستقرة. واستعرض الواقع الذي مر به العراق لعقود من الزمن، حيث عانى من دورات متعاقبة من الحروب وعدم الاستقرار والأنظمة الاستبدادية، قبل أن يدخل في مرحلة الانتقال الديمقراطي بعد سقوط نظام صدام حسين. وعبّر عن هذه الحالة قائلاً: “كنا نخرج من أزمة لندخل في أخرى، ومن معضلة إلى معضلة”، مشبهاً العراق بمريض خرج من عملية جراحية كبرى: حيّ وواعٍ ومتفائل، لكنه ما زال بحاجة للعناية والرعاية.
وأشار إلى أن العراق واجه بعد 2003 تحديات الإرهاب والعنف الطائفي وتفكك المجتمع، إلا أن السنوات الأخيرة — لا سيما العامين الماضيين — شهدت مؤشرات على تحسن ملحوظ. واستشهد بتحسن العمليات الأمنية، حيث باتت القوات العراقية تنفذ عمليات استباقية لتفكيك الشبكات الإرهابية قبل تنفيذها لأي هجمات. وأضاف: “نقوم بتفكيك الشبكات قبل أن تنفذ عملياتها، وتُنفذ عمليات نوعية كل أسبوع تقريباً”. واعتبر أن هذا التحسن الأمني، مقترناً بقبول إقليمي ودولي أوسع لدور العراق السياسي الجديد، يشكل دافعاً حاسماً لتسريع جهود بناء الدولة.
ورغم هذا التقدم، لم يُخفِ الحكيم حجم التحديات القائمة، مشيراً إلى أن تداخل الصلاحيات بين السلطات الثلاث — التنفيذية والتشريعية والقضائية — تسبب أحياناً باحتكاكات، بينما تقف الثغرات الدستورية وتأخر تنفيذ العديد من مواد الدستور كعوائق أمام ترسيخ العمل المؤسسي. وأوضح أن العديد من المواد الدستورية، مثل المادتين 112 و140، ما تزال غير مفعّلة بقوانين عملية، لافتاً إلى تأخر تشكيل مؤسسات اتحادية أساسية كـ “مجلس الاتحاد”، حيث أن أكثر من 30 مادة دستورية بحاجة لتشريعات مدنية حديثة.
أزمة البرلمان وتعطيل العمل التشريعي
تحدث الحكيم عن استمرار شغور منصب رئيس البرلمان، مرجعاً الأزمة إلى التنافس الداخلي بين الكتل السنية، الأمر الذي تسبب بحدوث تصدعات داخل الكتل الشيعية والكردية أيضاً، حيث سعى كل طرف سني لفرض مرشحه الخاص، ما عمّق الأزمة التشريعية لأكثر من عام. لكنه أعرب عن أمله بأن تسفر الجلسة المقبلة للبرلمان عن انتخاب رئيس جديد وإنهاء هذا الانسداد السياسي.
وأوضح الحكيم أن التنمية السياسية والاقتصادية المستدامة لا يمكن أن تتحقق في غياب الاستقرار السياسي، حيث شبّه العملية السياسية برحلة جوية مريحة لا يشعر الركاب بقيمة قائد الطائرة إلا في حال وقوع مشكلة. وبيّن أن الاستقرار السياسي يقود إلى الاستقرار الأمني، وهذا بدوره يمكّن من تحقيق النمو الاقتصادي، الذي يسهم في التماسك الاجتماعي ويعزز الاندماج الوطني والانفتاح الدولي.
أما بشأن قانون النفط والغاز، فأشار إلى أن المعضلة تكمن في اختلاف الفلسفات حول إدارة الثروات الوطنية أكثر من كونها إشكاليات إجرائية في البرلمان، مضيفاً أن الخلاف حول مجلس الاتحاد يتمثل في جدل مستمر حول ما إذا كان ينبغي أن يمثل المحافظات أم النخب والقادة السابقين. وقال: “لحظة الاتفاق على الفلسفة، سيتم إقرار القانون”.
الفيدرالية، علاقة بغداد وأربيل وجدلية الدولة العميقة
وفي ملف الفيدرالية، أقر الحكيم بأن التطبيق العملي للامركزية ما زال بطيئاً بفعل التعقيدات القانونية والثقافة المؤسسية المركزية المتجذرة. وأشار إلى أن بعض الوزارات أعادت سحب صلاحيات المحافظات بعد حل مجالسها، ما أفرز مجدداً صراعاً على الحدود الإدارية مع عودة هذه المجالس في الانتخابات الأخيرة.
أما بشأن العلاقة مع إقليم كردستان، فقد أشاد الحكيم بأجواء التعاون السائدة خلال العامين الماضيين بين رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني ورئيس الوزراء السوداني، معتبراً أنها أنجزت ما لم يتحقق طوال عقدين، داعياً إلى استمرار الشفافية والحوار لكسر حالة الشك المتبادل المتوارثة.
أما عن مصطلح “الدولة العميقة”، فقلل الحكيم من واقعيته في السياق العراقي، معتبراً أن ما يشير إليه البعض على أنه تحالف حاكم ما هو إلا نتاج نظام برلماني تشكل فيه الحكومات عبر تحالفات سياسية، موضحاً أن الموظفين البيروقراطيين في نهاية المطاف يخدمون الدولة وليس الأشخاص أو الأحزاب.
أداء حكومة السوداني وتقييم المزاج السياسي العام
أشاد الحكيم بأداء حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، معيداً الفضل في النجاحات النسبية إلى مهارة إدارة رئيس الوزراء وبيئة الدعم السياسي المتراكمة. وأشار إلى أن نسبة الرضا الشعبي بلغت بحسب بعض الاستطلاعات 70%، مرجعاً ذلك إلى التزام الحكومة بتقديم الخدمات والبنية التحتية.
ولفت إلى أن حكومة السوداني هي الأولى التي تقدم تقارير دورية منتظمة عن تنفيذ برنامجها الحكومي، حيث تعقد اجتماعات شهرية أو نصف شهرية مع ائتلاف إدارة الدولة بمشاركة وزراء من مختلف القوى السياسية. وأوضح أن آخر الأرقام تشير إلى إنجاز 72% من البرنامج الحكومي، قائلاً: “من يشكك في هذه النسبة فليسأل وزراء حزبه الذين صادقوا عليها”.
كما أشار إلى الفجوة المزمنة بين شعبية رؤساء الوزراء وانخفاض الثقة بالأحزاب السياسية، معتبراً أن تحسين أداء الأحزاب سيسهم تدريجياً في استعادة ثقة الشارع بها.
التحالفات السياسية والانتخابات والتطورات الجديدة
وفي حديثه عن الانتخابات الوطنية المرتقبة عام 2025، أوضح الحكيم أن الإطار التنسيقي ليس تكتلاً انتخابياً موحداً، بل منصة تنسيقية تضم قوى متقاربة في الرؤية، ما يتيح لأعضائه التنافس منفردين انتخابياً، ثم إعادة تشكيل التحالفات لاحقاً لتشكيل الحكومة. واعتبر أن هذا النمط يعزز التعددية دون الإضرار بوحدة القرار السياسي.
كما أشار إلى تحوّل هيكلي في السياسة العراقية من صراعات طائفية وهوياتية إلى تنافس داخلي ضمن المكونات الشيعية والسنية والكوردية، معتبراً أن هذا التطور يعكس نضجاً سياسياً متزايداً: “اليوم قد يكون حزب شيعي أقرب إلى حزب كردي من قربه إلى منافسه داخل المكون نفسه”.
رسائل ختامية إلى كوردستان وخارجها
وفي ختام حديثه، هنأ الحكيم قيادة وشعب إقليم كردستان على نجاح الانتخابات الإقليمية، مشدداً على ضرورة البناء على الزخم الإيجابي في العلاقات بين بغداد وأربيل، داعياً لمواصلة الحوار القائم على الثقة والمصالح المشتركة.
وفي الشأن الإقليمي، جدد دعم العراق السياسي والإنساني والأخلاقي للشعبين الفلسطيني واللبناني في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، داعياً إلى تأسيس صندوق إعمار مخصص لإعادة إعمار فلسطين ولبنان بعد النزاعات، مؤكداً التزام العراق بالمبادئ الأخلاقية للتضامن الإقليمي ورفض الظلم.
ملتقی الشرق الأوسط 2024
العراق: بناء الدولة وسط الديناميكيات السياسية المتطورة (أ)