يلعب مقتدى الصدر دور الگراندماستر في شطرنج السلطة ومصر علی الفوز مهما كانت التكلفة. وفي فترة التحضير للعبة، انتهزت القوی السنیة الفرصة، وجمعوا شملهم وأصبحوا الفائزين الرئيسيين في الجولة الأولى. أما الكورد، فدخلواها على ساق واحدة، فقدوا التركیز علی المشهد الأكبر وكثفوا جهودهم علی التنافس الداخلي.
بات ذلك مكلفا بالنسبة لإقليم كردستان، وإذا استمروا في العمل كما بدأوا، فإن الجولة الثانية ستكون أكثر تكلفة. لحسن الحظ، لم يفت الأوان بعد لتقليل خسائرهم أو حتى الفوز معا في الجولات المستقبلية. لكن يتعين عليهم أن يأخذوا في الاعتبار الديناميكيات المعقدة ليس فقط داخل البیت الشيعي في العراق، بل أيضا في العالم الشيعي داخل العراق وخارجە.
العالم الشيعي والبيت الشيعي
إن تشكيل الحكومة في بغداد يتبع مسارا معقدا من داخل العالم الشيعي. تبدأ العملیة علی ید مجموعة برلمانية فائزة داخل الكتلة الشيعية في العراق والتي ستتولى القيادة، لكن معالم الحكومة واتجاهها العام علی المدی الطویل يتم تحديدها في نهاية المطاف من قبل عدد من المؤسسات غير المرئية من العالم الشيعي. وهم بشكل جماعي أصحاب القضية الشيعية ولهم الكلمة الأخيرة. وتشمل مؤسسات العالم الشيعي ما يلي:
أ) مرجعية النجف والمؤسسات الدينية الأخرى (مثل الحوزة) والنخب الفكرية وقادة المجتمع ككل.
ب) القوى السياسية، مثل التيار الصدري والإطار التنسيقي والاحزاب الاخرى والنخبة السياسية عامة.
ج) المؤسسات السياسية والأمنية والاستخباراتية في إيران، ومرشدها الأعلى، وحوزة قم، وحزب الله اللبناني، وغيرهم.
بعد قرون من الحكم السني، تولى الشيعة السلطة في العراق للمرة الأولى (بعد عام 2003). وفي الواقع، تولت مؤسسات العالم الشيعي، التي تعتبر العراق محوريا في نضالها الوجودي، ملكية البلاد. وبالرغم من تنوع المصالح أو المنافسات الداخلية بینهم، ظلت المؤسسات هذە متحدة في متابعة الاستراتيجيات الكبرى أو مواجهة تهديدات مشتركة. وقد أثبت نفوذهم الجماعي أنه أكثر هیمنة وقوة من أي عدد من المقاعد التي يمكن أن تضمنها التحالفات السياسية العراقية.
وعلى هذا النحو، لا یتحمل العالم الشيعي المساومة علی القضایا المصیریة ولا ینوي السماح لأي قوة سياسية داخلية بالخروج عن هذه السياسة، وإقامة تحالفات مع غير الشيعة، وتخفيف قبضتهم على السلطة. فهي لن تسمح للجماعات السنية أو الكردية، التي يحتمل أن تتأثر أو یمكنها المنافسون العالميون أو الإقليميون، مثل الولايات المتحدة أو تركيا أو دول الخليج، بتحیید العراق بعيدا عن إيران، وأعادته إلى عمق العالم السني.
وبالتالي، إذا كانت مؤسسات العالم الشيعي، ولا سيما في إيران والنجف، تعمل حتى الآن كمؤسسات مراقبة، فإن ذلك لا يعني أنها ستبقى كذلك. إنها قد تسمح للتیار الصدري بتشكيل حكومة بالشراكة مع القوی السنية والحزب الديمقراطي الكوردستاني (البارتي). لكن لديهم الوقت والأدوات والأساليب الكافیة لأفشال هذه الحكومة إذا تطلب الأمر. وتشير المؤشرات الأولية والتهديدات الجارية إلى أنهم مستعدون للعمل بشكل منهجي لتقويض أنفراد الصدريين بالسلطة. وسوف يعیقون تقدم هذە الحكومة ويمنعون الاصلاح ويسهلون انهياره مما يمهد الطريق امام حكومة ائتلافية جديدة او انتخابات مبكرة.
نهج الصدريين
یدرك الصدريون كل هذا، ویدركون أن العالم الشيعي يعتبر توحید البیت السني في العراق وصعود قواهم إحياءا محتملا للهيمنة السنية وتهديدا وجوديا محتملا للحكم الشيعي. ولأسباب مختلفة، يعتبرون الإزدیاد المهیمن لنفوذ الكورد في بغداد خطرا أيضا. ويشك العديد من القوميين العراقيين في صدق القوی الكوردیة، ولا سيما البارتي، في التخلي عن حلمهم بالاستقلال والعمل من أجل عراق أقوى وأكثر وحدة.
لا يخفي الصدريون عدم ثقتهم في أجندة الكورد ولا يرغبون في الدخول في شراكة تجبرهم على قبول المطالب الكوردية لما يعتبرونه حقهم. وخوفا من ضغوط الناخبین ومنافسيهم الشعبويين في مناطقهم الإنتخابیة، قد يترددون في تنفيذ المادة 140 من الدستور، أو تقييد قوات الحشد الشعبي الشيعية في الأراضي المتنازع عليها، أو تسهيل دفع حصة إقليم كردستان العراق من الميزانية.
باختصار، لا يرغب الصدريون في التهور ضد مؤسسات العالم الشيعي والمخاطرة بمستقبلهم السياسي. لذا يصرون على جذب بعض القادة داخل الأطار التنسیقي، وهذا من شأنه أن يعطيهم الشرعية الشيعية والأغلبية الشيعية (في الحكومة) التي هم في أمس الحاجة إليها.
حزمة التسوية
بالرغم من وصول القوى السياسية الى انسداد في المباحثات، الا انه هناك حلولا قد تفك هذا الانسداد، ومن هذه الحلول ما تم مناقشته خلال المفاوضات بين الصدريين وقوی الإطار التنسیقي، وهي ثلاثة حزمات ، دون الرابع التي قد تكون أختیارا واردا.
١) حزمة الإطار التنسیقي، حيث تنضم جميع الأحزاب الأعضاء في الإطار، بما في ذلك السید نوري المالكي، إلى مجلس الوزراء. وهم يأخذون ست وزارات، ويحتفظون بحق النقض على اختيار رئيس الوزراء والمالكي ليصبح أحد نائبي الرئيس. وحتى الآن، رفض الصدريون هذه الحزمة.
٢) حزمة الصدريين التي تتكون من دعوة جميع الأطراف الأعضاء في الإطار التنسیقي، باستثناء المالكي. هم يأخذون أربعة وزارات دون حق النقض على الخيار من رئيس الوزراء. وقد رفض الإطار التنسیقي هذە الحزمة حتى الآن.
٣) حزمة التسوية التي تقبل المالكي كنائب للرئيس، تقدم من أربع إلى ست وزارات للإطار، مع أو بدون حق النقض على اختيار رئيس الوزراء. وقد تكون هذه الحزمة في النهاية مقبولة بشكل متبادل.
هناك الحزمة الرابعة التي لم تناقش، والتي تتكون من تشكيل حكومة أقلية شيعية بالشراكة مع غير الشيعة، أي البارتي والقوی السنية الرئيسية. هذه الحزمة حاسمة بالنسبة للكورد لأنها الخيار الوحيد التي من شأنه أن يسمح للبارتي بالانضمام بمفردهم إلى الصدريين وحرمان الاتحاد الوطني الكردستاني (الیكتي) من رئاسة الجمهوریة أو حصة الوزارات. وإلا فإن الحزم الثلاث السابقة ستمكن أعضاء الإطار التنسیقي والیكتي من دخول الحكومة بمطالبهم أو توقعاتهم الخاصة، وهو ما لن يتماشى بالضرورة مع مطالب البارتي.
شراكة البارتي والصدريين
ويبدو أن الصدريين تركوا الأمر للبارتي لإقناع الیكتي بالانضمام إلى ائتلافهم. وخلال الزيارة المشتركة بين البارتي والیكتي إلى بغداد، توقع الصدريون أن يوقع الیكتي على إعلانهم المشترك. ويبدو أن الصدريين (والشركاء السنة) قلقون من الانقسام بين الحزبين الكرديين، إلا أنهم على استعداد للقيام بما يلزم لحماية مصالحهم.
واتضح أن الهدف الرئيسي للصدريين في الشراكة السابقة مع غير الشيعة هو التغلب على منافسيهم الشیعة في تأمين “الكتلة الأكبر” وأخذ زمام المبادرة الشيعية في تشكيل الحكومة. ولهذا السبب، كانوا يعتمدون فقط على قائمة التقدم (بقيادة الحلبوسي) التي كانت كافية، وبالتالي لم يكونوا بحاجة إلى الآخرين. والآن نجح الصدريون والسنة في تأمين أهدافهم، وقد يبدأون في التفكير في التحركات المستقبلية وعواقبها السياسية. وإذا انتهى الأمر بانضمام الإطار والیكتي، فقد يضطر الصدريون إلى السعي للوصول إلى حل وسط بين البارتي والیكتي لا سيما بشأن الرئاسة. وإذا فشلت كل المحاولات، وانتهى الأمر بانسحاب البارتي من الشراكة، فقد يستمر الصدريون في المضي قدما لأنهم لن يتأثروا.
الصورة الكبيرة والنفق الضيق
ومن الواضح أن أيا من شركاء التحالف مع الصدریین لم يركز على الصورة الكبيرة. ومع ذلك، فإن الوحدة السنية سوف تخدم قضيتهم المشتركة، وقد تتنازل الجماعات الشيعية في النهاية فيما بينها لتجنب إضعاف الحكم الشيعي. ومن المفارقات أنهم قد يقررون أن السماح بأسلوب إصلاحي جديد في الحكم، بقيادة شيعي قوي التفكير، قد يحول العراق إلى بلد أفضل مع مؤسسات أقوى يمكن للشيعة أن يفخروا بها. وفي المقابل، كان التنافس بين القوی الكوردیة كارثيا حتى الآن، وإذا استمر يمكن أن يشكل تهديدا وجوديا لإقليم كوردستان العراق ككيان.
وفي السابق، قبل وبعد الانتخابات، تبادل البارتي والیكتي خطابات مطمئنة للغاية، مؤكدين على الوحدة في الداخل وفي بغداد على حد سواء. لسوء الحظ، حدث العكس تماما. ويبدو أن الطرفين فقدا رؤية الصورة الكبيرة وسارا في نفق ضيق نحو منافسة داخلية أكثر ضررا، الأمر الذي قد يؤدي في نهاية المطاف، كما يخشى البعض، إلى انقسام كامل في إدارة إقليم كردستان. لكن مثل هذه السيناريوهات ليست حتمية. وقد اعتاد الحزبان على ديناميكية معقدة بينهما. وغالبا ما ينقسمون إلى مستويات مختلفة من الارتباطات. وفي حين يتعاونون حيث تخدم مصالحهم المشتركة على أفضل وجه، فإنهم ينخرطون في منافسة هدامة في أماكن أخرى.
ومن المهم إعادة التأكيد على أن الانتخابات العراقية قد جلبت فرصة جديدة لإقليم كوردستان لتغيير العلاقات بين بغداد وأربيل ومعالجة الأسباب الجذرية للقضايا التي تكمن حلولها في بغداد. والأهم من ذلك، يحرص الشركاء الدوليون على تسهيل هذه الأمور والتأكيد على رغبتهم في دعم كوردستان موحدة وأكثر استقرارا التي يمكن أن تعمل كشريك أكثر فعالية في بغداد.
لم يفت الأوان بعد لكي يعمل البارتي والیكتي على تهدئة هذا التنافس الشديد في بغداد والدخول في مفاوضات جادة وبناءة من أجل التوصل إلى نتيجة مربحة للجميع. وينبغي أن يعيدوا التركيز على الصورة الكبيرة، وأن يتوصلوا إلى اتفاق استراتيجي جديد، وأن يبذلوا جهودا مشتركة لتحقيق أهدافهم المشتركة في بغداد.