بعد أربع سنوات من الهزيمة العسكرية لداعش، استمرت الظروف السابقة والمرتبطة بخطر التطرف العنيف بلا هوادة في العراق. تحتاج الاستراتيجية الوطنية الحالية لمكافحة التطرف العنيف إلى مراجعة شاملة لتشمل سياقات واحتياجات ووقائع المناطق المختلفة في البلاد.
لا يزال التطرف العنيف يمثل تهديدًا كبيرًا في العراق، ولا يقتصر على أي مجموعة أو منطقة عرقية أو طائفية محددة. استعادت الحكومة العراقية على مدى السنوات الماضية، وبدعم من الفاعلين الدوليين، درجة معقولة من القدرة العسكرية لمكافحة الإرهاب. ومع ذلك، بعد أربع سنوات من الهزيمة العسكرية لما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش) وتحرير الموصل، لم يتم إحراز تقدم كبير في معالجة الأسباب الهيكلية للتطرف العنيف في البلاد.
معدلات البطالة مرتفعة في العراق وتتزايد. تشير التقديرات على الصعيد الوطني إلى أن أكثر من ثلث الشباب العراقي ليسوا منخرطون في وظائف أو سلك تعليم. إن الضعف في سيادة القانون وآليات المساءلة هي عوامل مهمة تؤدي إلى استقطاب الشباب وتطرفهم. لا تزال الثقة في المؤسسات الأمنية والسلطات السياسية والنخبة الحاكمة منخفضة. والحصول على الخدمات العامة ذات الجودة، بما في ذلك التعليم، ولا سيما في المناطق “المحررة” من داعش، لا تزال غير كافية. تمثل عسكرة المجتمع من قبل الجهات المسلحة غير الحكومية، وتحديداً في المناطق المتنازع عليها في محافظتي كركوك ونينوى، تحديًا كبيرًا لتحقيق السلام والتماسك الاجتماعي في جميع أنحاء العراق. وفوق كل شيء، لا تزال وصمة العار المسندة الی داعش تطارد شرائح كبيرة من السكان: فأسر الأعضاء الذين تربطهم صلات حقيقية أو متصورة بداعش لا تزال غير قادرة على الاندماج في المجتمع.
كان التحدي الرئيسي للحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003 هو عدم قدرتها في تبني وتطویر سياسة وطنية تعرف وتحدد بوضوح التطرّف العنيف ومحركاته وطرق منعه ومكافحته. منذ صعود تنظيم داعش في عام 2014، أكد القادة العراقيون بشكل علني وسري على الحاجة إلى معالجة الأسباب الجذرية للتطرف العنيف وطلبوا المساعدة الدولية. أدى ذلك إلى تقارب غير مسبوق للجهود العسكرية والاستخباراتية الدولية والوطنية والإقليمية التي أدت إلى هزيمة داعش عسكريًا.
ولحسن الحظ، منذ إعلان هزيمة تنظيم داعش في عام 2017، أقرت الحكومة العراقية ولو بشئ من الغموض علی ما یبدو، سياسات مكافحة التطرف العنيف، مع الاعتراف بأهمية نهج الأمن الناعم والانساني ومواجهة روايات الجماعات المتطرفة. بدعم من الجهات الدولية الفاعلة، طور مجلس الأمن الوطني التابع للحكومة العراقية “استراتيجية مكافحة التطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب”. ومع ذلك، فإن “الاستراتيجية” لم تتحقق بالكامل على أرض الواقع بعد.
تعاني وثيقة استراتيجية مكافحة التطرف العنيف في العراق من أربع ثغرات وأوجه قصور رئيسية:
أولاً، لا تحدد الاستراتيجية بوضوح الأسباب الجذرية للتطرف العنيف وعوامل الدفع، مثل الفساد والسياسة الطائفية وانتشار الجماعات المسلحة غير الحكومية، والأهم من ذلك، تدخل الدول المجاورة كأسباب للتطرف العنيف في البلاد. لا تتناول الوثيقة التهديد المباشر الذي تشكله الجهات المسلحة غير الحكومية على عمليات المصالحة وإعادة الإعمار في البلاد.
ثانيًا ، لم يتم إبراز الدور الذي يلعبه السياق المحلي في مكافحة التطرف العنيف في هذا المستند. في حين أن التطرف العنيف مشكلة وطنية، فإن دوافعه ومظاهره مرتبطة بوقائع سياقات محلیة مختلفة. على سبيل المثال، يختلف العنف والتطرف في سياق الموصل، حيث أعلن تنظيم داعش أنها عاصمتهم الفعلية، عن المحافظات الجنوبية. في الموصل، على سبيل المثال، اعتمد تنظيم داعش على المجتمعات المهمشة التي رأت بديلاً للنظام السياسي بعد عام 2003. وبالمثل، فإن السياق الهيكلي لإقليم كوردستان فيما يتعلق بالتطرف يختلف عن بقية العراق. الشاغل الرئيسي الأول في الإقلیم ليس مواجهة التهديد المباشر للإرهاب، ولكن منع التطرف العنيف على المدى الطويل. كل منطقة لها ظروف وأولويات مختلفة، وبالتالي، تتطلب استراتيجيات مختلفة.
ثالثًا، أظهر إبحاثنا الميدانية، خاصة في محافظة نينوى، أن السلطات المحلية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني والباحثين لم يكونوا على دراية حتى بوجود مثل هذه الوثيقة. لم يتم مشاركة المستند على نطاق واسع ولا يمكن الوصول إليه عبر الإنترنت. وهذا على عكس دول المنطقة الأخرى، مثل لبنان، حيث أتيحت الفرصة للباحثين والجهات الفاعلة في المجتمع المدني لمناقشة ورصد استراتيجية بيروت. فشلت الحكومة العراقية في إشراك الجهات الفاعلة المحلية أثناء تطوير الوثيقة ونشرها، مما أدى إلى عدم وجود ملكية مشتركة على نطاق أوسع. كما أن الإستراتيجية لم تترجم إلى اللغة الكردية واللغات المحلية الأخرى.
رابعًا، تتكون الإستراتيجية من أهداف عامة وخطط شاملة فقط، ولم تتم متابعتها بترجمتها إلى عملية، مما يثير تساؤلات حول التنفيذ الفعلي. غارقة في سلسلة من الأزمات التي لا تنتهي، بما في ذلك العجز المالي وحركات الاحتجاج والتنافس الأمريكي الإيراني على الأراضي العراقية وعدم الاستقرار السياسي، ومؤخرًا، جائحة كوفيد -19، تحولت أولويات بغداد بعيدًا عن تنفيذ الاستراتيجية.
في الختام، سيتطلب تطوير استراتيجيات محلیة أو إقاليمية لمواجهة ومنع التطرف العنيف أهدافًا وخططًا أكثر واقعية وشمولية لمكافحة التطرف العنيف. وسيؤدي ذلك إلى مشاركة جميع أصحاب المصلحة المحليين والوطنيين في ملكية العملية. لذلك، لا ينبغي النظر إلى هذه العملية على أنها مسألة روتینیة. وبدلاً من ذلك، تحتاج مناطق العراق المختلفة إلى تدخلات واقعية ومصممة حسب السياق وموجهة مع خطط واضحة للتنفيذ على أرض الواقع.