لقد بات احتلال الموصل من قبل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قضية ذات أهمية عالمية. ويُنظر إلى تحرير المدينة كرمزٍ لهزيمة التنظيم في العراق. ثمة ضغوط دولية على المضي قدماً، والبدء بهذه العملية. هنا تكمن المُشكلة، إذ ثمة ما يُقدر بنحو 1.2 مليون شخص محاصرين في المدينة، و800،000 في المناطق المحيطة بها. حيث يُمكن أن يكون ذلك سبباً لأضرارٍ كبيرة، إذ ستُفقد العديد من الأرواح؛ إن لم يكن هُناك خطة مُناسبة للجوانب السياسية والعسكرية لهذا الوضع، فضلاً عن الديناميات المعقدة لمدينة الموصل بعد انتهاء الصراع العسكري، حيث ستحتاج إلى المُشاركة والمصالحة المُجتمعية وإعادة الإعمار.
الطريقة التي استغنت بها قوات الأمن عن مدينة الموصل بسهولة بالغة، برهان على الإخفاقات الهيكلية والسياسية العميقة التي في العراق، وهذه تحتاج إلى معالجة، و إلا سوف تكون الهزيمة العسكرية لداعش دون أي جدوی. إذ ستكون مُجرد إحلال لكيانٍ راديكالي محل آخر، وتؤدي الی اعادة تهميش السُنة. يجب التعلم من الدروس والإجراءات التي كانت في مرحلة ما بعد صدام. حيث شكل الفشل في خلق نظام سياسي ومدني وأمني يُمثل جميع سكان العراق، دافعاً للتطرف وفك ارتباط كثير العراقيين مع الدولة العراقية. هذه الاخطاء نفسها، لا يُمكن أن تتكرر مرة اخری في مرحلة ما بعد داعش.
هناك جذور عميقة للقضايا التي تحتاج إلى معالجة، لذا فأن تغييرات جذرية لنظام الحُكم يجب أن تُستحدث، بما فيها النظام اللامركزي الذي لا يُمكن أن يتكون من إقطاعيات لبعض الأفراد، بل أن يكون إشراكاً وتقاسما للسلطة على المستوى المحلي كما المركزي. لقد فشل نظام الحكم في العراق في تمثيل مختلف الطوائف في البلاد، ومنذ عام 2003 والحكومة لم تستطع أن تحقق الاستقرار الاقتصادي والأمني.
في ظل هذه الظروف نمت وازدهرت داعش في العراق، الشيء الذي يُظهر بوضوح بأن الحل السياسي يجب أن يأتي قبل أي قرار عسكري. فداعش هي مظهر من المظاهر البشعة داخل المُجتمع السُني، وقهره عسكرياً لن يكون الحل – إذ لا بد من معالجته سياسياً. فهزيمة داعش عسكرياً لا ينفي إمكانية إعادة تجسيده ثانية في كيان عنيف آخر.
في مرحلة ما بعد سقوط نِظام صدام حُسين، كان هناك حيز صغير للمُصالحة، حيث لم تُعالج الانقسامات، وأصبح الأعضاء السابقون في الحكومة العراقية معزولين تماماً، وكانت تلك العُزلة دافعاً لانضمامهم إلى الجماعات المتطرفة. في العام 2003 كانت المصالحة مُجرد شعار، ولم يتم تنفيذها أبداً، وهذا لا يمكن أن يتكرر.
كانت أعمال العنف في نينوى تجري على المستوى المحلي، وكانت غالباً تنطوي على عُنف مُضاد للجيران وللمُجتمعات المجاورة؛ وبالتالي فإن الحاجة إلى المصالحة أكبر من أي وقت مضى. يجب أن يكون هناك تمييز بين أولئك الذين انضموا لداعش طوعاً، وأولئك الذين أجبروا على القيام بحُكم الظروف التي تكونت. وبعد هذا التصنيف يجب أن يكون هناك عملية مصالحة مُبرمجة، وأن ترسم السياق المُحدد لأحوال محافظة نينوى، من أجل وقف حلقة الانتقام. تحتاج هذه العملية لأن تُقدم المذنبين إلى العدالة من خلال نظام قانوني، وهناك بالفعل دعوات قوية من أعضاء مجلس محافظة نينوی ومن السكان المحليين، لمشاركة المحاكم الدولية في هذه العملية.١ كما أن اتفاق القبائل ضمن هذه العملية، هو أساسي في منع دائرة الانتقام.
عملية المصالحة أمر حتمي، حتى تبدأ عملية إعادة الإعمار وعودة النازحين الداخليين. على هذا الأساس، فأن أحد المسائل الأساسية هي حماية الأقليات والتصدي للجرائم التي تطالهم، فضلاً عن حماية مستقبلهم في المنطقة. في الوقت نفسه، من المهم أن نلاحظ أن الطائفة السنية أيضاً قد عانت إلى حد كبير تحت احتلال الدولة الأسلامية. كل هذه المجتمعات يجب أن يكون لها دور في القرار السياسي والأمني في مناطقها من محافظة نينوى. إلا إنها تحتاج لمستوى هائل من التنسيق والدعم من المجتمع الدولي وبغداد وأربيل. ومن الأهمية بمكان الانتباه إلى أن لا يسمح بتكاثر اعداد الميليشيات المسلحة المُنتشرة في نينوى بعد تحرير المحافظة، وبالتالي الحاجة إلى إدراجهم في نظام أمني وظيفي جديد، مع هياكلة واضحة لقيادة هذه المجموعات.
المعركة الأخيرة في الفلوجة هي مثال لكيفية “عدم تحرير” مدينة ما، وهي مِثال لما يجب التعلم من دروس هذه الإخفاقات. هل كان ثمة خطة لما بعد النزاع؟ لماذا شارك الحشد الشعبي؟ ماذا كان الدافع لمثل هذا الاستعجال؟. فقد كان ثمة تقارير عديدة عن التعذيب والقتل الذي يقوم به الحشد الشعبي، فضلا عن تدمير لا داعي له لبنية المدينة. فما بعد تحرير الفلوجة، أظهر بالفعل وجود خلاف سياسي كبير داخل مجلس المحافظة، وكذلك فيما خص قضايا إعادة الإعمار. علاوة على ذلك، كان هناك نقص حاد في الإعداد لاستقبال النازحين داخلياً، مما أدى إلى تدهور الأوضاع في المخيمات.
عدد سُكان الموصل أكبر بكثير من سُكان مدينة الفلوجة، وليس بوسع العراق حالياً تدمير المدينة وتحمل تدفق اللاجئين بأعداد كبيرة مرة أخرى. المجتمع الدولي يجهز نفسه لقبول حوالي 120،000 نازح، ولكن الأرقام سوف تتجاوز هذا بكثير -تقدر حكومة إقليم كردستان أن العدد من المرجح أن يكون بين 400،000 – 1،000،000 نازح، سواء أثناء أو بعد التحرير.٢ يجب أن يكون هناك تنسيق دولي ضخم للتعامل مع هؤلاء النازحين، حتى بالتعامل مع أسوء السناريوهات المُمكنة. عسكرياً، فإن معظم القادة المحليين تتفق على أن القوى السنية يجب أن تلعب دوراً قيادياً جنباً إلى جنب مع الجيش العراقي في دخول المدينة، وأنها يجب أن تكون مدعومة من قبل البيشمركة من المناطق الشمالية، في حين تتلقى الدعم الجوي واللوجستي من قوات التحالف.
هناك حاجة أيضاً إلى خطة لإعادة الإعمار. هناك الخطط العسكرية التي وضعت حالياً من أجل هزيمة داعش في الموصل، مع تدمير بالحد الأدنى للمدينة. مع ذلك، فأن مستويات معينة من الدمار لا مفر منها، واساساً فأن جزء كبيراً من المدينة قد تم تدميره. راهناً فأننا نحتاج إلى أن توضع الإمكانات في المكان المناسب؛ لإعادة بناء المدينة وتوفير الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه والرعاية الطبية والتعليم. الاستثمار في اقتصاد المدينة أيضاً شيء في غاية الأهمية، لأنه بدون وظائف لا يُمكن أن يكون هناك أي أمل في الأمن الاقتصادي، وبدون هذه الأشكال من إعادة الاعمار لن ولا يمكن أن يُتوقع عودة النازحين إلى الموصل. ومن الأهمية بمكان أن تحدث عملية إعادة إعمار بشكلٍ فوري، فإعادة بناء المدينة، وعودة السكان سيعزز هزيمة داعش.
هناك حاجة أيضا إلى برامج ل”نزع التطرف”، فالكثير من الشباب كانوا يعيشون تحت “سُلطة” داعش لأكثر من عامين، حيث من المؤكد بأن ذلك كان له تأثير نفسي كبير عليهم في تلك المرحلة، خصوصاً أنه ثمة الكثير من الشُبان اليافعين الذين يتأثرون بسهولة في مثل هذه الظروف. بالإضافة إلى ذلك، تم حرمان شباب الموصل من التعليم السليم أثناء الاحتلال، نحتاج إلى أن نضع الإمكانات في المكان الصحيح للتعامل مع ديناميات جديدة من الشباب غير المتعلمين، وذلك لضمهم إلى النُظم والمناهج المصممة لأولئك الذين يسيرون في المسار التعليمي العادي. لقد عانى سُكان الموصل قدراً كبيراً من الأعمال الوحشية، وبالتالي يجب أن يكون هناك خطة طويلة المدى لمعالجة قضايا “الصحة العقلية” واضطراب ما بعد الصدمة.
العديد من القضايا المثارة أعلاه يمكن معالجتها من خلال التخطيط الدقيق والتنسيق والتمويل. ومع ذلك، فمن الواضح أن القضايا السياسية معقدة، ويتطلب من أطراف متعددة أن تعمل معاً لأن تُحقق: أن تتوصل إلى اتفاقات لهيكلة الحُكم في محافظة نينوى، وديناميكيات السلطة بين المحافظة والحكومة المركزية، العلاقة بين المحافظة والمناطق المحيطة بها. نتيجة لذلك، يجب أن يكون هناك صفقة سياسية بين الجهات المحلية الفاعلة (خصوصا بين المحافظ السابق وأعضاء مجلس المحافظة)، وكذلك على المستوى الوطني (بغداد وأربيل) وعلى المستوى الدولي (الإقليمي والعالمي). هناك فرصة لنهضة مدينة الموصل وعموم محافظة نينوى، فضلا عن العراق. لكن من دون خطة صالحة، وتشكيلٍ من الاتفاقات السياسية والجهود الضخمة في مرحلة ما بعد الصراع، فأن المُستقبل سيكون “ولادة لجنين ميت”، بدلاً من بداية جديدة و حياة واعدة.
* تمثل هذه المقالة لمحة موجزة عن النتائج الأولية للمشروع الحالي لمؤسسة الشرق الأوسط للبحوث. وثمة تقرير سياسي مفصل مُتابع لهُ حين الانتهاء.
١. وقد أعرب عن ذلك للمؤلف من خلال المقابلات، العديد مع أعضاء من مجلس المحافظة.
٢. وقد ذُكرت هذه الأرقام، خلال إطلاق خطة الطوارئ الإنسانية المشتركة، اربيل – 22 يونيو 2016.