إصلاح النظام المالي ودور البنك المركزي العراقي
- علي العلاق، محافظ البنك المركزي العراقي
- سنان محمود، صحفي في صحيفة ذا ناشيونال (المحاور)
في إطار حوار سياساتي نظمتها مؤسسة الشرق الأوسط للأبحاث (MERI)، حاور الصحفي سنان محمود السيد علي العلاق، محافظ البنك المركزي العراقي في جلسة حوارية سلطت الضوء على مستقبل العراق المالي وآفاق الإصلاحات الهيكلية. وقدمت الجلسة استعراضاً شاملاً للتحديات والمنعطفات والطموحات المحيطة بسياسات العراق النقدية، واستقراره المالي، ومساعي تحديث مؤسساته. لم يقتصر النقاش على الجوانب الفنية للإصلاح، بل تعمق في الفلسفة الاقتصادية المتغيرة في دولة طالما اتسمت بالتقلبات والاعتماد المفرط على النفط والبيروقراطية المعطلة.
استهل ميسر الجلسة حديثه بالإشارة إلى الأهمية الرمزية والعملية لمثل هذه المنتديات التي تُمنح فيها الفرصة للمسؤولين رفيعي المستوى لتوضيح مسارات السياسات في أجواء شفافة. وأشار إلى الآمال العريضة التي رافقت مرحلة ما بعد 2003، حيث خرج العراق من عقود من العقوبات والحروب وسوء الإدارة، وسط توقعات بأن يتصدر البنك المركزي والمؤسسات المالية العراقية مشهد التحول المنشود من خلال قوانين مصرفية حديثة، واستقلالية مؤسسية، واندماج مع المعايير العالمية. غير أن تدهور الأوضاع السياسية والأمنية لاحقاً بدّد تلك الآمال تدريجياً، وتأجلت الخطط التنموية، وظل القطاع الخاص يعاني من الركود، بينما تعمّق اعتماد الدولة على النفط.
في خضم هذا المشهد المعقد، انحصر دور البنك المركزي في نظر الرأي العام في نافذة مزادات بيع العملة الأجنبية اليومية، وهي الآلية التي أحاطت بها الكثير من الجدل. لكن مع وصول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى الحكم أواخر عام 2022، بدأت ملامح خطاب إصلاحي جديد يتشكل، واضعاً على رأس أولوياته إعادة هيكلة النظام المالي والاقتصادي، حيث أُوكل للبنك المركزي دور محوري في استعادة التوازن الكلي وتعزيز المصداقية المؤسسية.
من الأزمة إلى البناء: الإنجازات والأسس المؤسسية
استهل المحافظ علي العلاق مداخلته محذراً من اختزال دور البنك المركزي في نشاط نافذة بيع العملة، مشدداً على أن البنك يشكل ركيزة أساسية للاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد، ولا يقتصر عمله على إدارة السياسة النقدية فحسب، بل يشمل تطوير البنية التحتية المالية ككل. واستعرض المسار المؤسسي للبنك منذ 2003، مذكّراً بأن احتياطيات العراق من العملة الأجنبية في تلك الفترة لم تتجاوز 900 مليون دولار تمت مصادرتها من قبل مسؤولين في النظام السابق قبيل سقوط بغداد. ومع وجود ما لا يزيد عن 4 تريليونات دينار متداولة آنذاك، كان الأساس النقدي للبلاد هشاً وعرضة لصدمات تضخمية خطيرة.
أما اليوم، فقد تغيّر المشهد النقدي بصورة جذرية، حيث أوضح العلاق أن حجم الكتلة النقدية المتداولة تجاوز 100 تريليون دينار، بينما تخطت الاحتياطيات الأجنبية حاجز 100 مليار دولار. واعتبر أن هذا التحول النوعي انعكس في انخفاض معدلات التضخم من مستويات ثلاثية إلى 3.8% فقط حالياً، وهي نسبة تعتبر صحية وفقاً للمعايير العالمية. وأشار إلى أن نسبة تغطية الاحتياطيات للإصدار النقدي بلغت 140%، وهي أعلى بكثير من المعدلات الدولية، ما يدل على إطار نقدي مستقر ومدار بكفاءة.
لكن هذا التوسع في الكتلة النقدية مثّل تحدياً مستمراً، إذ تطلّب إدارة دقيقة للحيلولة دون نشوء موجات تضخمية مفرطة. وأوضح العلاق أن جوهر مسؤولية البنك المركزي يكمن في الحفاظ على القوة الشرائية للعملة، محذراً من أن أي فائض أو عجز في السيولة قد يخلخل التوازن الاقتصادي بشكل خطير. واعتبر أن نجاح البنك يتجلى في قدرته على ضبط هذه التوازنات بدقة.
التحول الرقمي، إصلاح القطاع وتحديث المؤسسات
حدّد المحافظ ثلاثة محاور رئيسة لبرنامج الإصلاح الحالي في البنك: الاستقرار النقدي، وتحديث القطاع المالي، والإصلاح المؤسسي. ومن أبرز مظاهر التقدم الانتقال نحو بيئة المدفوعات الرقمية؛ حيث رخص البنك لـ 16 شركة مدفوعات إلكترونية، وساند تطوير المحافظ الإلكترونية، ويستعد لإطلاق شركة وطنية للمدفوعات تتولى إدارة البنية التحتية للمعاملات الإلكترونية في البلاد. وفي موازاة ذلك، بدأ البنك بترخيص أول مصارف رقمية بالكامل في العراق، في تحول جوهري نحو نظام مصرفي حديث وأكثر شمولاً.
غير أن التحول الرقمي لا يمثل سوى أحد أعمدة الإصلاح؛ إذ يعمل البنك بالتوازي على خطتين لإعادة هيكلة المصارف الحكومية والخاصة عبر عقود مع شركات استشارية دولية، على أن تبدأ عمليات التنفيذ خلال العام المقبل. وتشمل هذه الإصلاحات تعزيز الحوكمة والشفافية والكفاءة الرأسمالية، وإعادة هيكلة الملكية وفق معايير عالمية.
وربما كان التحول الأبرز هو توجه العراق نحو ما يُعرف بالمصرفية التنموية؛ حيث يشارك البنك المركزي في تحفيز النشاط الاقتصادي بشكل مباشر عبر برامج إقراض مدعومة بلغت قيمتها أكثر من 13 تريليون دينار، تركز أساساً على قطاعات الإسكان والبناء والاستثمار الصناعي. علاوة على ذلك، يجري تأسيس بنك التنمية “مصرف الريادة” المتخصص في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة. واعتبر العلاق هذه الخطوة بمثابة إدراك لحقيقة أن تعافي الاقتصاد وخلق فرص العمل يرتبطان بتمكين رواد الأعمال المحليين وتنويع مصادر النمو.
السياسة النقدية: أسعار الفائدة وضبط التضخم
في ملف السياسة النقدية، شرح العلاق خلفيات قرار تخفيض سعر الفائدة القياسي من 7.5% إلى 5.5% مؤخراً، موضحاً أن القرار جاء استجابة للتراجع في معدلات التضخم بعد فترة من التشديد النقدي. ففي 2023، بلغ التضخم ذروته عند 7.5% بسبب تضاعف الكتلة النقدية من 46 تريليون دينار في 2020 إلى أكثر من 100 تريليون نهاية 2022. وعمل البنك حينها على رفع أسعار الفائدة لامتصاص السيولة الزائدة والسيطرة على التوسع النقدي خلال عام كامل، قبل أن يقرر خفض الفائدة لاحقاً لدعم النمو مع الإبقاء على الانضباط النقدي.
وشدد العلاق على أن سياسة الفائدة ستظل مرنة وتخضع للمراجعة المستمرة وفق مؤشرات التضخم، مشيراً إلى أن الأداء الحقيقي للبنوك المركزية لا يُقاس بأسعار الصرف كما يظن البعض، بل بقدرتها على ضبط التضخم وتحسين رفاه الأسر.
المخاطر المالية، الدين العام واستراتيجيات الموازنة
رداً على أسئلة حول الدين العام، أوضح المحافظ أن الدين المحلي تجاوز 70 تريليون دينار، مرشحاً للوصول إلى 80 تريليون بنهاية العام، محذراً من أن هذا المسار غير مستدام نتيجة اختلالات هيكلية في المالية العامة، في ظل تفاقم الإنفاق الجاري خصوصاً على الرواتب، وضعف الإيرادات غير النفطية.
ودعا العلاق إلى معالجة الأسباب الجذرية للعجز المالي بدلاً من التركيز على نتائجه، عبر توسيع القاعدة الضريبية، وضبط الإنفاق، ووضع خطط مالية متوسطة الأجل، مع تعزيز النشاطات الإنتاجية في الزراعة والصناعة والخدمات لتوسيع القاعدة الاقتصادية وتقليل هشاشة الموازنة أمام تقلبات أسعار النفط.
وفي هذا الإطار، اعتبر أن تبني موازنة اتحادية ثلاثية السنوات يمثل خطوة نحو الاستقرار المالي، رغم ما شاب التنفيذ من تأخيرات أثرت على المصداقية، مبيّناً أن نجاح هذه الصيغة مرهون بدقة البيانات المالية وقدرتها على دعم التقديرات والالتزامات المالية الرشيدة.
إصلاح نافذة العملة والتحول إلى المنصات المصرفية
اختتمت الجلسة بسؤال حول إنهاء العمل بمنصة مزاد العملة التاريخية التي كانت تمثل الآلية الرئيسية لبيع العملة الأجنبية. ورد العلاق مطمئناً بأن عملية الانتقال أنجزت بنسبة 95%، حيث أُقيمت علاقات مباشرة بين المصارف العراقية والبنوك الدولية، ما أنهى الحاجة إلى الآلية القديمة. واعتبر أن هذا التحول يعد إنجازاً مؤسسياً سيجعل من عمليات الصرف أكثر سرعة وشفافية وانسجاماً مع المعايير العالمية.
خاتمة والآفاق المستقبلية
مثلت هذه الجلسة نافذة نادرة وغنية على مسار التحول المالي في العراق. وأظهرت مداخلات المحافظ علي العلاق نضج البنك المركزي وتنامي دوره الاستراتيجي في التخطيط الاقتصادي الوطني. فمن ضبط التضخم إلى التحول الرقمي، ومن إعادة هيكلة المصارف إلى التمويل التنموي، يثبت البنك المركزي حضوره كمحرك أساسي لإعادة التوازن الاقتصادي.
غير أن التحديات الهيكلية لا تزال قائمة، فالنظام المالي العراقي لا يزال أسير إيرادات نفطية محدودة وإنفاق حكومي جامد، ما يقيّد طموحات الإصلاح. ومع ذلك، أوضحت الجلسة أن هناك إرادة جادة لتغيير المسار. وكما لخّص العلاق: الاستقرار يبنى على مؤسسات قوية، والإصلاح يتجاوز الشعارات إلى تحول منهجي قائم على البيانات والحوكمة الرشيدة.