انقر هنا لتنزيل الملخص السياسي
إن النبرة الخاصة بالعلاقات التركية-العراقية منذ 7 كانون الثاني تبدو وكأنها تغيرت بفعل الزيارة الرسمية غير المتوقعة لرئيس الوزراء التركي بينالي يلدريم إلى بغداد عقب المكالمة الهاتفية التي جرت بين رئيس تركيا رجب طيب أوردوغان ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قبلها باسبوع. لدى عودته إلى أنقرة، أعلن بينالي “باختصار بدأت فترة جديدة من العلاقات العراقية-التركية. وفي هذه الفترة سوف نقوم معاً وبشكل وثيق تقييم جميع القضايا المتعلقة بشؤوننا الاقتصادية والسياسية، والأمن في سياق علاقات حسن الجوار”.
جرى اللقاء بين رئيسي الوزراء في سياق الهيئة العليا للتعاون الاستراتيجي التي تأسست بين البلدين في 2008. وقد أبرم هذا المجلس حتى الأن عدد من الاتفاقيات التي تنص علی القيام بأنواع مختلفة من التعاون في مجموعة من المجالات، بما في ذلك الأمن والطاقة والاقتصاد والبيروقراطية. واجتمع أعضاء الهيئة مرتين من قبل، أخرها كان في 2014 حيث إلتقی رئيس الوزراء التركي أنذاك أحمد داود أوغلو ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. أما الاجتماع الثالث للمجلس الذي كان مقرراً لعام 2015 فلم ينعقد أبداً نظراً لتدهور العلاقات بين القيادتين. وكانت التصريحات اللاذعة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أوردوغان ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بمثابة مؤشر للمنخفضات الجديدة في العلاقات العراقية-التركية.
تُثير هذه التطورات المتنوعة الاسئلة التالية: أولاً، مالذي حمل القيادتين على إلتماس التطبيع في هذه المرحلة من الوقت؟ وثانياً، هل سيُمثل هذا التطور مساراً مستداماً من التعاون المتزايد حول القضايا الثنائية في مجال السياسة والأمن والاقتصاد والطاقة؟ تتطلب معالجة هذه القضايا النظر الى التقلب الكبير الحاصل في العلاقات التركية-العراقية في السنوات القليلة الماضية وتباعد منظوريهما خاصة في الشؤون السياسية والأمنية كالمستقبل السياسي لنينوى ودور المليشيات العراقية المسلحة.
مالذي دعا إلى التطبيع؟
يمكن أن يكون لمفهوم التطبيع معان كثيرة مختلفة. في حالة العلاقات بين أنقرة وبغداد يدل التطبيع على استعادة الاتصال المباشر بين القيادتين من دون اللجوء الى اتهامات علنية لاذعة وإعادة نوع من التعاون فيما بيهنم. وقد يكون سيناريو ‘المكسب لكل الأطراف’ للمصالح الثنائية المشتركة أو المتبادلة في مجال الأمن والسياسة والاقتصاد والطاقة تفسيراً ممكناً لهذه التطورات.
المصالح التركية
من وجهة نظر تركيا، كان التركيز الرئيسي في العراق قائماً على إضعاف دور حزب العمال الكوردستاني (بي كاي كاي). وأصبح هذا الأمر مركزياً بالأخص بعد أن تحرك حزب العمال الكوردستاني والقوات التابعة له من قنديل وسوريا إلى مناطق سنجار من أجل إنشاء ممر آمن للإيزيديين خلال هجوم تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) في آب 2014. ونتيجة لذلك، إکتسب حزب العمال الكوردستاني نفوذاً بين الإيزيديين وأسس وحدات مقاومة سنجار للإيزيديين. من الواضح أن تركيا تعارض وبشدة إنشاء “قنديل ثانية” في العراق والتي من الممكن أن تتخذها حزب العمال الكوردستاني كقاعدة لشن هجمات على تركيا. وبالنسبة لتركيا فإن إدانة بغداد لوجود حزب العمال الكوردستاني في سنجار والأهم من ذلك تواجده المحتمل بين الجيش العراقي والشرطة الاتحادية في المنطقة، تعد عاملاً رئيساً للحد من نشاطات حزب العمال الكوردستاني.
من الناحية السياسية، تحاول القيادة التركية أن تبلغ بأنها تحاول جاهدة إلى زيادة عدد أصدقاءها وتقليل أعداءها علی المستويين الإقليمي والدولي بعد فترة من التوتر المتزايد مع روسيا واسرائيل وبغداد. والأهم من ذلك، يمكن لتطبيع العلاقات مع بغداد أن يُدحض فكرة أن تركيا تخدم أجندة طائفية وبالتالي تُعزز من مكانتها في الشرق الأوسط كمصدر للاستقرار.
أما من ناحية الاقتصاد والطاقة، فمنذ قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، أصبح الاقتصاد أحد العوامل الرئيسة التي تحدد السياسة الخارجية لتركيا. وعلى الرغم من العقبات الاقتصادية الراهنة في كلا البلدين، إلا أن العراق يُقدم سوقا كبيرة للاستهلاك والاستثمار. بالإضافة إلى ذلك، حاولت الحكومات التركية بمرور الوقت، وبما في ذلك حزب العدالة والتنمية، تحويل تركيا الى مركز للطاقة. بإمكان تركيا أن تزيد من أهمية ميناء جيهان ليس فقط من خلال تصدير النفط الكوردي، بل جزء من نفط بغداد أيضا.
المصالح العراقية
من وجهة نظر بغداد، يمكن لهزيمة داعش أن تصبح فرصة ضائعة لتحقيق الاستقرار في العراق، وذلك إذا لم تكن الحكومة قادرة على التعامل مع العنصر السني من الناحية السياسية والاقتصادية (كما حدث بالفعل مع “الصحوة السنية” في 2006). وهذا يشمل الوضع السياسي والقانوني المستقبلي في المناطق السنية، مثل نينوى والأنبار، وإعادة بناءهم. وتحقيقاً لهذه الغاية، يعد تطبيع العلاقات مع تركيا شرطاً ضرورياً لحكومة العبادي لبناء الثقة مع العامل السني وتحقيق التوازن في الخطاب الطائفي وجدول أعمال نوري المالكي – المنافس الرئيسي لمنصب رئيس الوزراء في العراق. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون لتركيا دوراً إيجابياً في المفاوضات المستقبلية حول نينوى من خلال جمع الأطراف المحلية المتنافسة من قبيل حكومة إقليم كوردستان والحاكم السابق لنينوى أثيل النجيفي وحكومة بغداد إلى طاولة المفاوضات.
علاوة على ذلك، فإن العراق يمر بأزمة اقتصادية حادة والبلد في حاجة إلى قروض واستثمارات أجنبية مباشرة. وعلى الرغم من عدم الاستقرار الاقتصادي في تركيا بسبب تقلب أسعار العملات وتفاقم العجز في الحسابات الجارية، إلا أن الحكومة التركية تتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 3.2% هذا العام. إن أتت التوقعات بثمارها وأصبحت حقيقة، من الممكن أن توفر تركيا مساعدة مالية من خلال تقديم قروض لبغداد كما فعلت في حالة اقليم كوردستان العراق. بالأضافة الى ذلك، يمكن للقطاع الخاص النشط من توسيع استثماراته إلى خارج اقليم كوردستان العراق والتي ترتكز فيها معظم نشاطات هذا القطاع حالياً ضمن العراق.
أهمية الديناميات الخارجية: روسيا وتركيا
من الممكن للمرء أن يزعم بأن سيناريو المصالح المشتركة والمتبادلة هذه قد تم ادراكها قبل عملية التطبيع بفترات طويلة، وهذا قطعاً لا يفسر الخلاف الحاصل بين الطرفين. لذلك ودون الاشارة الى إن العوامل المذكورة آنفاً يمكن أن تكون أساساً لتعميق العلاقات فيما بين البلدين، إلا انها لاتبدو بأنها تُفسر توقيت عملية التطبيع. ومع ذلك، الأمر الذي يبدو سبب في تعثر تحقيق هذا السيناريو هو المنافسة الخلافية بين تركيا وإيران والأطراف المحلية التابعة لهما، أربيل وبغداد، بشأن المستقبل السياسي للعراق. ومايبدو أنه قد غير من هذه الدينامية، على الأقل في الوقت الراهن، هو التقارب الأخير بين روسيا وتركيا وتعاونهم الوثيق بشأن المشكلة السورية من أجل فرض وقف إطلاق النار على الأراضي وإستئناف المفاوضات لمستقبله السياسي في أستانا. لايمكن للجهود المتضافرة والمنسقة بين روسيا وتركيا وإيران أن تكون لها أية تأثيرات ملموسة على أرض الواقع وذلك فيما لو ألقى التنافس بين تركيا وإيران بظلاله على العراق. يمكن لهذا الأمر أن يمنح متنفساً لداعش التي نمت في ظل الخلافات الطائفية. إضافة إلى ذلك، فإن سوريا والعراق مترابطتان بحكم الواقع وذلك نظراً لتواجد داعش في كلا االبلدين. لذلك فإن اجتثاث داعش يتطلب إجراءات متزامنة في كلا الجبهتين.
مدی إستدامة هذه البداية الجديدة؟
عند النظر الى نتائج المحاولات السابقة لإنعقاد إجتماع الهيئة العليا للتعاون الاستراتيجي الثالث من ناحية الأمن والسياسات، فلايُمكن للمرء أن يكون متفائلاً جداً، حيث أن هنالك تردد من كلا الطرفين في الالتزام بجدول أعمال ملموس وتطلعي. فمن ناحية، أطلقت بغداد بعض التصريحات العلنية ضد وجود حزب العمال الكوردستاني في سنجار، ولكنها لم تلتزم بأية خطة لإبعادهم. ومن ناحية اخرى، وبدورها أدلت تركيا بتصريحات حول احترام وحدة وسيادة العراق، ولكن من دون الالتزام بسحب غير مشروط لقواتها من بعشيقة. بدلاً من كل ذلك، كان هناك تهديد ضمني من قبل رئيس الوزراء التركي، فيما لو لم تطرد بغداد واربيل حزب العمال الكوردستاني من سنجار فإن أنقرة يمكن أن تقوم باجراء انفرادي حيال ذلك. وأخيراً، لم تتوصل أنقرة وبغداد إلى استنتاج حول دور الفصائل المسلحة الشيعية العراقية في مرحلة مابعد تحرير نينوى وكذلك حول محافظ موصل السابق أثيل النجيفي وقواته. إن القضايا الرئيسة في الخلاف تُشكك في الدينامية الداخلية لعملية التطبيع.
في الوقت الحاضر، وفي أفضل الأحوال، ستُبقي القيادتان مستوى معين من التواصل المباشر والتعاون من دون اطلاق تصريحات عدائية علنية ضد بعضهم البعض. ومع ذلك، فمن الصعب أن يتم تصور تعميق العلاقات بينهما أكثر من ذلك. إن المبادرات الارتجالية الروسية والتركية والإيرانية في سوريا تبدو بأنها الدينامية الوحيدة التي تؤثر على العلاقات الثنائية بشكل ايجابي. فطالما إن الدور الروسي في المنطقة يجمع البلدان المتنافسة في هذه المنطقة معاً ويمنع تدهور العلاقات فيما بينهم، فمن الممكن أن يتم حفظ المستوى الحالي من العلاقات.
انقر هنا لتنزيل الملخص السياسي
للإقتباس: Manis, A. (2016) Normalisation in the Ankara-Baghdad Relations: A New Era? MERI Policy Brief. vol. 4, no. 01
الآراء الواردة في هذا المنشور تعکس آراء الكاتب وليس بالضرورة مٶسسة الشرق الأوسط للبحوث.