انقر هنا لتنزيل الملخص السياساتي
من الناحية النظرية، الرؤية هي التي تخلق الحاجة لوسيلة معينة تسعی وراء تحقيقها. إن الرؤية الناشئة في تركيا اليوم هي نتيجة للعلاقة المعکوسة بين الرؤية ووسيلة التحقيق. إن الترکيز الرئيسي للقيادة في حزب العدالة والتنمية تنصب علی تأسيس نظامي رئاسي مهيمن، اي بما معناه، تأسيس لنظام حکم معين، وما تحاول أن تفرضه القيادة و بشكل تدريجي هي رؤية قومية ممنهجة على صناع القرار الحاليين مقرونة بنشر خطابات وافعال قومية. إن السعي وراء هذا النمط من الحكم بإمکانه الايقاع بصناع القرار في الحاضر والمستقبل في دينامياتها مؤدية الى عواقب وخيمة للبلاد ودول الجوار. إن نهاية المرحلة الانتقالية الراهنة بين الرؤية القديمة والرؤية الناشئة لاتُمثل بالضرورة نهاية الأزمة في البلاد، ولكن على الأرجح تُمثل ترسيخها وتعميقها.
لغاية الآن، يُمكن تحديد الأعراض غير السليمة لهذه المرحلة في حالة الاستقطاب العالية بين حزب العدالة والتنمية والأحزاب المعارضة والتوتر المتصاعد بين الحكومة وفئة كبيرة من المجتمع المدني، لاسيما بعد فشل الانقلاب العسكري في 15 تموز عندما أغلقت السلطات التركية أكثر من الف منظمة غير حكومية، ونقابات عمال، والمئات من المؤسسات الاعلامية بدون اية إجراءات قضائية. بالاضافة الى ذلك، فقد أظهرت أجهزة الدولة في تركيا إشارات قوية لوجود حالات تحزب إما لصالح حزب العدالة والتنمية أو ضدها. وتعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز ٢٠١٦ وردة الفعل العنيفة والمباشرة من قبل حزب العدالة والتنمية في محاولة لإعادة فرض سيطرة كاملة على جميع المؤسسات مؤشراً قوياً لذلك. فضلاً عن ذلك، قام صناع القرار في حزب العدالة والتنمية بتطوير مايبدو على انه سلوك خاطئ في سياستهم الخارجية تجاه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والتي لاتبدو انها جزء من استراتيجية واضحة للسياسة الخارجية.
تطرح هذه الملاحظات الاسئلة الاتية: ماهي الرؤية الاستراتيجية المتلاشية، وكيف تعمل القيادات في حزب العدالة والتنمية على استبدالها، وماهي الأثار المترتبة لها على مستقبل تركيا؟
رؤية استراتيجية متلاشية
من الرؤى الاستراتيجية الهامة للحكومات التركية المتعاقبة، والتي حظيت بدعم من الأحزاب المختلفة بما فيها حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري والأحزاب الكوردية، هي رؤية الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. لقد وحد هذا الهدف البلاد وجمعهم حول جدول أعمال سياسي واقتصادي مشترك. وتحقيقاً لهذه الغاية، شرعت تركيا في سلسلة من الإصلاحات في ميادين سياساتية مختلفة، بما في ذلك سيادة القانون والعلاقات العسكرية المدنية وحقوق الكورد. وفي الوقت نفسه كانت حكومة حزب العدالة والتنمية قادرة على تعزيز مبدأ تصفير المشاكل مع دول الجوار وتطوير علاقات تجارية قوية مع العديد منها كسوريا واليونان في اطار اتفاقيات ثنائية.
ومع ذلك، فان توجهات الاتحاد الأوروبي نحو تركيا لاتبدو بعد الان علی أنها تُشكل أولوية للقيادات في حزب العدالة والتنمية بما في ذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. على الرغم من تقلب العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية بسبب مخاوف بعض من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول انضمام تركيا كعضو كامل العضوية الى الاتحاد ومثال على ذلك ساركوزي رئيس فرنسا، وايضاً على الرغم من بعض التحديات القانونية بشأن الاستمرار السلس لمفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي بسبب قضية القبرص التي لم تُحل بعد، إلا أن تركيا بقت في مدار الاتحاد الأوروبي. بدأ هذا الأمر يتغير بعد انتخابات حزيران الماضية وأکتسب زخما ايضاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز ٢٠١٦.
قامت القيادة في حزب العدالة والتنمية بتنفير الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء بلغتها اللاذعة التي تستخدمها ضدهم. وعلاوة على ذلك، فقد قاموا بدعم الجانب العسكري ضد القضية الكوردية قولاً وفعلاً مثل اعتقال النواب ورؤوساء البلديات من حزب الشعب الديمقراطي. واخيراً، الدعوة الى إعتماد قوانين رجعية مثل إعادة عقوبة الإعدام وتمديد حالات الطوارئ أثارت انتقادات من قبل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء. ونتيجة لذلك أصدر البرلمان الأوروبي قراراً استشارياً يدعو الى تجميد مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي حتى تتم رفع “التدابير القمعية المفرطة”. وهذه هي المرة الاولى التي يتم فيها اصدار هكذا أمر من قبل البرلمان الأوروبي مشيرةً بذلك الى منخفضات جديدة في العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي.
يطرح هذا الأمر سؤالاً فيما إذا كان التصادم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا يشير الى إختيار قيادة حزب العدالة والتنمية لسياسة تهدف الى استبدال رؤية استراتيجية زائلة بأخرى جديدة.
رؤية ناشئة، علاقة معکوسة
في الوقت الحالي تستثمر القيادات في حزب العدالة والتنمية رأس مال سياسي هائل في تحقيق مسألة تحويل النظام البرلماني الى نظام رئاسي بدون ضوابط وتوازنات موثوقة. بعبارة اخرى، تريد هذه القيادات تكوين سلطة مهيمنة. ويری الكثير من المسؤولين في حزب العدالة والتنمية بأن البلاد تحتاج ان تقبل النظام الرئاسي بحكم الأمر الواقع وشرعنته. ولتحقيق ذلك ظل حزب العدالة والتنمية يحاول أن يُقنع الأحزاب المعارضة أن تقدم دعمها للتعديلات الدستورية ذات الصلة لأنها تتطلب صوت ١٤ برلمانيين أخرين.
من ناحية اخرى، وبالرغم من المزاعم الجدية لدفلت بهجلي ضد رجب طيب أردوغان في كانون الأول ٢٠١٥، إلا أن حزب العدالة والتنمية استطاع أن يُصلح العلاقات مع القيادة في حزب الحركة القومية المعروفة بالتشدد القومي. ومع ذلك، فان عسكرة المسألة الكوردية، واعتماد خطابات قومية وتنقيحية قوية، مع تصريحات علنية موازية للرئيس بخصوص الحاجة الى إعادة النظر في مزايا معاهدة لوزان لتركيا، وعزمها على إعادة عقوبة الإعدام، سمحت كل هذه الأمور لحزب العدالة والتنمية أن تلعب دوراً في نطاق حزب الحركة القومية. ومن المحتمل أن يجعل هذا من موقف حزب الحركة القومية في البرلمان خطراً في حالة إجراء دعوة مبكرة للانتخابات وفي حال تلقيها أقل من ١٠% (من العتبة الانتخابية). تبدو أن هذه الاستراتيجية قد نجحت وذلك لأن حزب الحركة القومية أصبحت الداعم الأساسي لخطة حزب العدالة والتنمية بالرغم من الإعتراضات الأولية. إلا انه ومن ناحية اخرى، يبدو أن حزب العدالة والتنمية من الناحية الخطابية قد وقع في الفخ ، حيث دعا حزب الحركة القومية حزب العدالة والتنمية أن تحفظ وعودها وتطرح عقوبة الإعدام في البرلمان.
علاوة على ذلك، وبالتوافق مع أهدافه وسياساته المحلية تصالح أردوغان مع بوتين رئيس روسيا وذلك بالاعتذار عن إسقاط طائرة روسية في ٢٠١٥ وقبول الدور الأساسي لروسيا في سوريا. يمكن أن تُعد هذه الخطوة بمثابة حركة متوازنة ضد النقد المتزايد للاتحاد الأوروبي حول سيادة القانون وحقوق الإنسان والموقف العام للقيادة في حزب العدالة والتنمية إزاء المسألة الكوردية. والأهم من ذلك لاتشترط روسيا في علاقاتها مع تركيا على القضايا المذكورة أنفاً.
مع ذلك يبقى السؤال: هل أن إنشاء سلطة مهيمنة قادرة علی أن تکون البديل للرؤية الاستراتيجية الزائلة لتركيا؟ هذا السؤال بلاغي الى حدٍ ما وذلك لأنه من الناحية النظرية فان أوجه الحكم هي وسائل لتحقيق أهداف استراتيجية وليست بأهداف استراتيجية نفسها. ومع ذلك، أصبحت وسيلة الحكم في تركيا هي الرؤية الاستراتيجية ذات الطابع الخطابي والسياساتي المتطابق.
على وجه التحديد، سيخلق التكوين النظامي لسلطة رئاسية مهيمنة في تركيا عوائق هيكلية لأية تغييرات ايجابية ممكنة بشأن تعزيز الديمقراطية وحل المسألة الكوردية. بينما تتطلب المسألة الاولى، أي الديمقراطية، تمييزاً واضحاً بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، فالمسألة الثانية، أي الكوردية، تقتضي بعضاً من تفويض السلطة. بالنتيجة، من الممكن أن تخلق السلطة الرئاسية المهيمنة رد فعل عنيف في أجزاء من المجتمع التركي ضد المؤسسات الرئاسية مخلقةً الحاجة الى وصاية مستمرة من جانب الرئيس وأنصاره. وهذا بدوره يُترجم الى خطابات وأفعال قومية منتظمة من أجل درء الضغوطات من المعسكر الليبرالي والعنصر الكوردي. بعبارة اخرى، ستصبح حماية السلطة المهيمنة للرئيس هي الرؤية نفسها، مولدة معركة داخلية مستمرة بين العناصر المؤيدة والمعارضة، تدفع فيها البلاد الى أزمة متنامية من خلال الاستقطاب.
خلاصة القول، بدأ حزب العدالة والتنمية سواء كان راغباً أم لا بتحديد رؤية استراتيجية جديدة ذات تيار رجعي وقومي بشكل كبير وفي صراع مباشر مع القيم الليبرالية الجوهرية لسياسات الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فالرؤية الاستراتيجية الناشئة هي بقايا لاختيار القيادات في حزب العدالة والتنمية لتحويل النظام السياسي لتركيا الى نظام رئاسي مهيمن. حالما تحدث التغييرات بدون أخذ اية اعتبارات باتجاه الضوابط والتوازنات وأي امكانية لتفويض السلطة فسيُصبح من الصعب جداً لحزب العدالة والتنمية إعادة عقارب الساعة الى الوراء، حيث ستكون وسيلة الحكم قد خلقت الرؤية الاستراتيجية التي تضمن بقاء الرئاسة المهيمنة في حال مرورها بالضغوطات الداخلية والخارجية حتى إن كان ذلك يعني نتائج دون المستوى الأمثل للبلاد وشعبه ودول الجوار.
انقر هنا لتنزيل الملخص السياساتي
للإقتباس: Manis, A. (2016) A Transitioning Turkey: Out with the Old, in with the New?, MERI Policy Brief. vol. 3, no. 21.
الآراء الواردة في هذا المنشور تعکس آراء الكاتب وليس بالضرورة مٶسسة الشرق الأوسط للبحوث.