Back

مهمة صعبة: بناء الديمقراطية في كوردستان، المعتمدة كليا علی النفط

صاموئيل هنينغتن، المٶسس المشارك لمجلة (فورين پوليسي)  والإختصاصي البارز  في مجال عمليات التحويل الديمقراطي، كتب ذات مرة  قائلا إن مبدأ “لا ضريبة بدون تمثيل برلماني” كان مطلبا سياسيا، في حين أن شعار ” لا تمثيل من دون ضرائب” هو أكثر إنسجاما مع الواقع السياسي في كثير من البلدان في العالم المتحضر. الذي لاحظه هنينغتن هو أنه من دون حضور للضرائب، يكون هناك دافع ضعيف  من جانب المواطنين للمطالبة بالتمثيل في الحكومة. إن واقع إقليم كوردستان يٶكد هذه النقطة ويبين كم هو صعب لديمقراطية كاملة أن تتشكل في ظلال تطور إقتصادي مبني علی النفط.

إن فرض الضرائب، قد لعب دورا محوريا في التطور التأريخي للديمقراطية. ففي بريطانيا أصبح مبدأ ” لاضرائب بدون تمثيل برلماني” شعار المظاهرات التي أطلقها أنصار مجلس العموم في أواخر القرن السابع عشر خلال “ثورتهم المجيدة” ضد الملكية، ولقد ولد تشريع قانون الحقوق عام ١٨٦٩ في النهاية برلمانا قويا بما فيه الكفاية لتقييد قوة الجانب التنفيذي. وحفز هذا القانون المشارکة السياسية وفرض المسٶولية والمحاسبة علی السلطة الملكية، بحيث أصبحت الآن مضطرا إلی رفع الإلتماس إلی البرلمان قبل الدخول في الحروب، ورفع معدلات الضرائب أو تغطية النفقات الرئيسة، وأصبح فرض الضرائب  يتوقف علی الموافقة وليس الإجبار أو الإكراه وأثبتت الحرب التي خاضتها إنكلترا مع فرنسا في السنوات اللاحقة بأن أفراد الشعب لم يبالوا بدفع ضرائب أكثر طالما كانوا يستطيعون أ‌ن يدلوا بأرائهم حول كيفية صرف مبالغ الضرائب. وقد تمكنت إنگلترا خلال الحرب أن تٶمن ٣٠% من ناتجها الإجمالي المحلي من خلال واردات الضرائب، مقابل ١٢% في فرنسا المٶيدة للمطلقية، وهذا ما وفر الأفضلية لبريطانيا إلی حد ملحوظ.  وبالنتيجة، فإن إنگلترا أصبحت الدولة الأولی التي ربطت بين حکم القانون والبيروقراطية والمسٶولية في إطار دولة واحدة موحدة.  ولقد أنتج هذا التزاوج دولة في غاية القوة ومستجيبة لمتطلبات النمو الإقتصادي بحيث أنها أصبحت سريعا نموذجا يحتذی به في كل أرجاء المعمورة، وعلی الأخص في الولایات المتحدة الأمريكية

” إنه من الصعب أن نتخيل كيف أن ديمقراطية سليمة وفتية بإمكانها أن تكون نفسها في إطار نظام إقتصادي يعتمد بشدة علی العلاقات مع الحكومة”

إذا، هناك إرتباط وثيق بين التمويل الحکومي وتشكيل الدولة، حيث يلعب مستوی الإعتماد الإقتصادي للدولة دورا رئيسا في رسم السلوك الحكومي وتقرير العلاقة بين الدولة والمجتمع.  وبهذا المعنی، فإن إقليم كوردستان يختلف عن أغلب الديمقراطيات الأخری لأنه يعتمد علی موارد النفط لأكثر من ٩٠% من ميزانيته. هذه الموارد المتأتية من مبيعات النفط، تتراكم بشکل مباشر للحکومة وتمكنها من تمويل نفسها من دون اللجوء إلی تدابير من قبيل فرض الضرائب علی مواطنيها، وبهذا، فإن إعتماد الدولة ينتقل من المواطنين إلی الأسواق العالمية، الأمر الذي يٶدي إلی خلق حالة عدم إرتباط بين المجتمع والحکومة وهذا يٶدي بالتالي إلی الإرتباك في العملية الديمقراطية . في السياق الطبيعي، يعتمد دخل الدولة علی دخل مواطنيها. أما في إقليم كوردستان، فإن المعادلة عکسية، حيث أن دخل المواطنين يعتمد علی دخل الإقليم. وبدلا من أن تستقطع من الإقتصاد المحلي، فإن إجمالي الميزانية الحکومية تقريبا تدخل في الميزانية المحلية فقط بعد مرورها من حکومة الإقليم، وتصبح الوسيلة الوحيدة التي من خلالها يستطيع الموطنون الحصول علی فرصة الوصول إلی هذه الموارد، هي المٶسسات الحكومية. هذا الواقع يمنح حکومة الإقليم  دورا  أكثر مرکزية وقابلية في الإمساك بالإقتصاد، وبذلك يصبح واجبها الأساسي توزيع الثروة النفطية.

ومن شأن هذه الممارسة أن يسبب في توسيع حكومة الإقليم لشبكاتها الشاسعة من الموالين والمحسوبين، بحيث أن خلق فرص العمل وتعيين الموظفين المدنيين أصبح بحد ذاته هدفا مغريا وإن قوائم الرواتب الحكومية لا تمثل سوی آليات رسمية للتوزيع ولا علاقة لها بالحاجات الإنتاجية الفعلية قطعا. عندما يدرك المرء بأن ٥٠% من قوة العمل  مستخدمة من قبل الحكومة، وأن أكثر من مليون من الأفراد مسجلون علی قوائم الرواتب الحكومية، يصبح من السهل جدا أنە يصل إلی إستنتاج  بأن دخل كل عائلة في كوردستان علی وجه التقريب يتوقف علی الحكومة بشکل من الأشكال. ليس ذلك فحسب، بل قطاعات خصوصية مهمة من قبيل البناء مثلا تعتمد بدرجة عالية  علی المقاولات العمومية

ومن هنا، فإنه من الصعب أن تتخيل كيف تقدر ديمقراطية فتية وسليمة أن تنمو وتتشکل  ذاتيا في ظلال نظام إقتصادي يعتمد إلی هذا الحد البعيد علی علاقتها  بالحکومة. وعندما يدخل أي طرف في حلبة النقد مع الحکومة، فإن الأمر يعني تلقائيا الدخول لدائرة الخطر بالنسبة لدخله، في حين تجلب الموالاة مكافئات سريعة وسخية، لذلك فإن الخيار العقلاني للأفراد هو أن يصبحوا متعاونين  بشكل طبيعي وبالتالي أن يستفيدوا من الفوائد  التي يچنونها من النظام من مثل هذا السلوك، وليس معارضته والوقوف في طريقه. وغني عن الذكر، أن العقد الإجتماعي الذي يسهل لإقليم  أن يتهرب من المحاسبة ، من خلال بوابة  إتاحة الرواتب والخدمات هو  بالأساس ما يفند من أحلام كوردستان في الديمقراطية.  وفي الواقع، فإن  قيادة الإقليم  إعترفت بهذا الواقع ضمنا خلال ملتقی ميري إنعقد هذا العام عندما رث الصلاحيات الضعيفة  للبرلمان وغياب الوعي السياسي الشامل لدی الأحزاب السياسية.

وعندما يهبط سعر النفط من أكثر من (١٠٠) دولار للبرميل الواحد إلی مافوق (٤٠) دولار بقليل، وبغداد توقف دفوعات الميزانية ، فإن شبكة الموظفين الضخمة لإقليم كوردستان  تصاب بالصدمة. لقد هبطت الموارد بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٤ بأكثر من  ٥٠% في حين أن الرواتب ونفقات الدعم والخدمات بقت علی حالها دون حراك.  وأي وسيلة لتنويع الموارد  فإن الوضعية الناشئة سرعان ما تمخضت عن عجز في الميزانية  لعام ٢٠١٤ قدرها (٨) ترليون دينار عراقي، وهذا بالتالي إدی إلی عدم قدرة الحكومة علی دفع الرواتب وإزدادت ساعات قطع الكهرباء، في حين تسعی الحكومة جاهدة للدفاع عن حدودها وتقدم الخدمات للسيل العرم من النازحين واللاجئين

“العقد الإجتماعي الذي يسهل لإقليم كوردستان  أن يتهرب من المسٶولية من خلال بوابة إتاحة الرواتب والخدمات، يأتي بالأساس بالضد من أحلام كوردستان في الديمقراطية”

إذا كيف السبيل أمام حكومة إقليم كوردستان إلی صد الأزمة المالية الحالية؟ كخطوة أمنية وعاجلة، علی حکومة الآقليم إيقاف توسع شبكة موظفيها الواسعة أصلا وتجميد حالات التعيين في القطاع العام، حيث يجب أن يكفي هذا العدد الهائل من الموظفين البالغ (٧٠٠) ألف لملأ كافة الشواغر الموجەدة حاليا وذلك من خلال عمليات تنقلات واسعة لأفراده. ثانيا، علی حكومة الإقليـم رفع كفاءتها من خلال إجراءات قوية وفعالة لمعالجة وضع الموظفين الفائضين وهذا يستلزم بالضرورة تحديد الفائضين وتقليص المنح والمكافئات كلما كان ذلك مناسبا. ثالثا، يجب المبادرة إلی تقليص الدعم من أجل تحقيق حالة التوازن  بين النفقات والموارد. وتدل الأبحاث السابقة المهيئة من قبل مٶسسة ميري بأن أوساطا من المواطنين بما فيهم النازحون يرغبون في دفع أجور الخدمات  ومن ضمنها الکهرباء إن كان ذلك سيٶدي إلی تحسين التجهيز. بالإظافة إلی هذه الإجرءات، تحتاج  حکومة الإقليم الی المبادرة إلی إرساء الأسس لجهاز يقوم بجمع المعلومات الكافية حول القطاع الخاص بهدف تطوير السياسات والمعلومات الإستنتاجية للتنبٶ بمستقبل التغييرات.  علی سبيل المثال، تنظيم سوق العمل لزيادة إمتصاصيته للقوی العاملة وتخفيف العبأ علی القطاع العام والحد من التعيين الغير الرسمي في القطاع الخاص.

” من شأن فرض الضرائب تحقيق عقد إجتماعي بين الحكومة والمجتمع  أكثر إنسجاما معا القيم الديمقراطية التي تدعی حكومة الإقليم إنها حريصة عليها”

وفي النهاية، فإن حلا جذريا لأوجه القصور للإقليم في مجالي الميزانية والديمقراطية ، لابد أن يٶسس بالضرورة علی تنويع الموارد، فالإقليـم بحاجة إلی مصدر ثابت ومستدام للدخل، بالإضافة إلی مبيعاتها النفطية المتقطعة. بإمكان فرض الضرائب علی شكل بضاعة-ضريبة، أو الممتلكات العامة أو الدخل، أن توفر لميزانية الإقليم الإجمالية قوة إضافية. وفي نفس الوقت يمنح حکومة الإقليم حافزا دائميا لزيادة الإنتاج في القطاع الخاص. والأهم من كل ذلك، فإن فرض الضرائب سيدشن ولادة عقد إجتنماعي جديد بين الحكومة والمجتمع بشكل يتميز بإنسجام أوسع مع القيم الديمقراطية التي تعلن حکومة الإقليم إنها حريصة عليها.

Comments are closed.