Back

هل سياسة التقشف المالي الأكثر فعالية لحل الأزمة الحالية

رداً على الأزمة المالية الراهنة في إقليم كردستان العراق، دعى العديد من المُراقبين وصُناع السياسات إلى ضرورة خفض الانفاق الحكومي وزيادة الإيرادات. هذه التي من الناحية الاقتصادية تُترجم إلى التقشف. فتراجع أسعار النفط، وانخفاض الميزانية الاتحادية، واستضافة أعدادٍ كبيرة من اللاجئين والنازحين، والمشاركة في الحرب ضد الدولة الإسلامية (داعش)، والفساد المستشري، جميعها عوامل ضغطت على ميزانية حكومة إقليم كردستان – والحكومة العراقية – مما أدى إلى عجز كبير فيها. بحيث شُل القطاع الخاص بسبب نقص السيولة. وكإجراء مُضاد، دفعت حكومة إقليم كردستان فقط جزء من الرواتب المُتاخرة، وأوقفت معظم -إن لم يكن كُل- مشاريع والتنمية والبنى التحتية. وبقي السؤال: هل هذه السياسة، والتي اُتخذت مُنذ العام 2015، ما تزال صالحة؟.

في عام 1937، كتب جون ماينارد كينز، أحد الأباء المؤسسين لعلم الاقتصاد الحديث: “الطفرة، وليس الركود، هو الوقت المناسب للتقشف في الخزينة العامة” التقشف مناسب للطفرة الاقتصادية، لتحقيق فائض مالي وكبح جماح التضخم. بناء على دراسة “النمو في زمن الديون” التي أجراها إستاذا جامعة هارفارد كارمن راينهارت وكينيث روجوف، أنهُ تقريباً في كل البُلدان التي عانت عجزاً في الميزانية بعد تحطم الأسواق بين عامي 2007-2009، فأنها لم تتحول إلى التقشف إلا في عام 2010، بهدف استئناف النمو الاقتصادي. لكن الوقائع تبين مرارا وتكراراً أن التقشف فشل في تعزيز النمو، وخفض الإنفاق إلحق ضرراً أكبر على الاقتصادات الضعيفة تعارض مما يتوقعت صُناع السياسات.

في إقليم كوردستان العراق يتكون الناتج المحلي الإجمالي (GDP) من الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي، حيث أن صافي الصادرات سلبي. لكن الاستهلاك يعتمد بشكل كبير على الدخل المُتاح. حيث أن الغالبية العُظمى من القوى العاملة في إقليم كوردستان العراق تعمل في القِطاع العام، وبالتالي فأن أية تخفيضات في الرواتب المدفوعة من قِبل الحكومة، ستؤثر سلباً على الدخل المُتاح – وبالتالي كمية الاستهلاك – لجزء كبير من قِطاع المُستهلكين.

لقد انخفض الاستثمار الخاص في إقليم كوردستان العراق بشكل كبير. المستثمرون مُترددون على نحو مُتزايد للاستثمار، بسبب المخاطر المُرتبطة بانعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي، والفساد. بالإضافة إلى ذلك، بسبب اعتماد المُستثمرين تقليدياً على القروض والمشتريات الحكومية. وبالتالي، فأن أية تخفيضات في ميزانية الحكومة سيكون لها تأثير كبير على الاستثمار الكلي، فضلاً عن تأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي.

Figure-5.-Investment-Approvals-(US$-million,-2015-total-through-September).-Source-KRG-Investment-Board,-2015,-60.

Figure 1: Investment Approvals (US $million) 4th quarter 2015), KRG Investment Board.

فحتى الوضع الراهن لإقليم كوردستان العراق فأن صافي الصادرات “سلبية”، لذا يُمكننا ان نقول أنهُ حسب السياسات الحالية هناك تقلص في الناتج المحلي الإجمالي، بينما معدلات الفقر والبطالة آخذة في الارتفاع. نتيجة لذلك، فأن استمرار السياسة الحالية للحد -عن طريق الحجب- من الرواتب، مع التركيز على قطاع واحد من الاقتصاد، ووضع المزيد من الضغوط على الأسر المنخفضة والمتوسطة الدخل؛ هو استجابة غير مناسبة للأزمة المالية الجارية، ومن المُرجح أن كثيراً ما ستؤخر الانتعاش. السياسة الحالية لخفض الرواتب ربما كانت مُناسبة كإجراء وحيدٍ مُتاح للطوارئ بالنسبة لحكومة إقليم كردستان التي كانت خزينتها فارغة، ولكن استمرار هذه السياسة على المدى الطويل، هو تعبير انعكاسي يمكن القول عبره بأن “الاقتصاد ينهار”.

عواقب التقشف

في أواخر عام 2012، اعترف صندوق النقد الدولي أن التقشف هو أسوأ بكثير بالنسبة للاقتصادات مما كان يُعتقد عموما، وأنه في التوقعات الاقتصادية الدولية -نصف السنوية- تأكد أن جهود الدول الغنية لتقليص العجز، من خلال زيادة الضرائب وخفض الإنفاق، لها تأثيرات سلبية أكبر بكثير من التوقعات السابقة للخُبراء.

الآثار المُترتبة على سياسات التقشف الحالية ملموسة بشكل واضح في إقليم كوردستان العراق. فالعديد من الموظفين الشباب، الموهوبين والمتعلمين تعليماً عالياً يغادرون البلاد، أو يستقيلون بشكلٍ نهائي من الوظائف الحكومية، للبحث عن فرص عمل أفضل. من الواضح، أن أولئك الذين يتركون وظائفهم الحكومية، هُم من بين الأكفأ عملاً في القطاعات الحيوية، التي قد تواجه مزيداً من التدهور في الجودة. علاوة على ذلك، هناك أيضا مسألة الكفاءة التي تخسر ميزاتها من خِلال التوظيف الوهمي والمحسوبية والفساد، التي لا تزال من أبرز المشاكل التي تُساهم في اضمحلال الميزانية الحكومة.

علاوة على ذلك، فإن الطبقة الوسطى في إقليم كوردستان العراق تعرضت لأزمة كبيرة مع هبوط الكثيرين من أعضائها تحت خط الفقر. والذين يشكلون غالبية المستهلكين يفقدون الثقة في الاقتصاد، وباتوا ينفقون أقل. إذا استمر التقشف الحالي مع باقي الاتجاهات السلبية، فأنه قد يؤدي إلى انكماش أكبر. ونتيجة لذلك، يمكن للاقتصاد بأكمله أن ينهار، أو أن يستمر الطلب بالانخفاض، مما يؤدي إلى تراكم تدريجي للركود، مع انخفاض مُزمن للاقتصاد.

حلول

العلاج الأمثل لأزمة مالية عميقة كهذه، كان سيكون حافزاً مالياً، فيما لو لم تكن خزائن أربيل وبغداد فارغة. ومع ذلك، هناك العديد من البدائل، سواء على مستوى الاقتصاد الكُلي أو الجُزئي. لقد حان الوقت لعكس هذا الضغط المالي، وإعادة النظر في السياسات السلبية لخفض رواتب العاملين في القطاع العام. بالطبع ستكون هذه العملية عاملاً لمزيدٍ من الضغوط الاضافية على ميزانية حكومة إقليم كردستان. ولكن من أجل أن تقوم حكومة إقليم كردستان بدعم الاقتصاد، فإنها يجب أن تدعم زيادة الاستهلاك، والتي يجب أن تكون معتمدة على زيادة الدخل. لمواجهة هذا الضغط الزائد، يُمكن لحكومة إقليم كردستان تنفيذ درجات من خفض النفقات بشكلٍ انتقائي، وفرض نظامٍ ضريبي مُعتدل، وخفضٍ للإعانات، بالإضافة إلى خيارات أخرى.

بهذا المعنى، فإن النهج التالي يُمثل بعض الخيارات الأكثر ملاءمة لحكومة إقليم كردستان في مواجهة الأزمة الاقتصادية. ومع ذلك، فمن المهم أن نُلاحظ أن السياسة والاقتصاد مُرتبطان دائما. ومن هُنا يتعين على كُل الأحزاب السياسية في إقليم كُردستان العراق متابعة تنازلات سياسية مُتبادلة، واستئناف جلسات البرلمان، لوضع التشريعات، وأن يكون البرلمان بمثابة هيئة الرصد.

 1-على المدى القصير:

أ- زيادة الإيرادات:
  • زيادة الإيرادات عن طريق زيادة الضرائب على السلع الفاخرة والكماليات. على الرُغم من أن هذا لن يجمع ما يكفي من الإيرادات لإصلاح العجز في الميزانية، وكذلك بزيادة ضريبة الجُنح والمُخالفات، حيث تُساعد بذلك في المدى الطويل على تقليل استهلاك السلع المُضرة/السلبية، التي لها آثار خارجية تُشكل عبئاً على إنتاجية الاقتصاد.
  • عدم العفو والإعفاءات الضريبية. حالياً، قانون الاستثمار في إقليم كوردستان العراق يستثني العديد من المُستثمرين الداخليين والخارجيين من دفع الضرائب. لذا فأن رفع هذه الحصانة أو الحد من فترة الإعفاء، من شأنها خلق مصدر آخر للدخل الحكومي.
  • إدخال غرامات إضافية للعقوبات المُقررة لل”الجرائم البسيطة”، مثل المخالفات المرورية، رمي النفايات، وتلويث البيئة …الخ. هذه التي سوف تخلق ثقافة الالتزام بالقانون واحترام التنظيم. هذه الإجراءات بالطبع يجب أن تكون مصحوبة بالاستثمار في عملية تحسين الخدمات.
ب-توفير:
  • الرفع التدريجي للسلع والخدمات و أزالة معونات ، خصوصا منها الطاقة. فحكومة إقليم كردستان تنفق سنويا قُرابة ترليون دينار عراقي على معونات فى عملية دعم إنتاج واستهلاك الطاقة. وقد خلق هذا الدعم عبئاً كبيراً على ميزانية الحكومة، وشوهت الأسعار، وتسببت بعدم الكفاءة. إن إزالة هذا الدعم، وترك قانون السوق يُملي السعر المناسب لكُل وحدة إنتاج واستهلاك بذاتها، وتشجيع الأسر على استخدام الطاقة بشكلٍ أكثر كفاءة، ودفع المُستثمرين للاستثمار في هذا القطاع هو الطريق الأجدى. صحيح أنه في المدى القصير، سيؤثر رفع الدعم سلباً على الأُسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، لكن على المدى الطويل، سيتم تعويض ذلك عن طريق زيادة الكفاءة وتحسين الخدمات، وموثوقية أكثر في توفير الكهرباء.

 2-على المدى الطويل:

  • إقناع البنك المركزي العراقي (CBI) بتنشيط فروعه في أربيل والسليمانية، واستعادة صِلاته وسلطته على فروع البنك المركزي في المنطقة. في المُقابل، يتعين على البنك المركزي العراقي السماح للدينار العراقي بخفض قيمته، من أجل إنعاش الاقتصاد. وفي وقت لاحق، فإنه سيتم استعادة الثقة الوطنية والدولية بالنِظام المصرفي في إقليم كوردستان العراق.
  • خصخصة العديد من المرافق والخدمات العامة، التي يُمكن للقِطاع الخاص إدارتها بكفاءة وتكلفة أقل من الحُكومة، مثل شبكات المياه والكهرباء وبناء الجسور والطرق … الخ. وقد حال عدم وجود أموال كافية لحكومة الإقليم، حال دون الانتهاء من مشاريع التنمية والبنية التحتية، والبدء بمشاريع جديدة. إن حكومة اقليم كردستان يُمكن أن تُسلم هذه المشاريع المتروكة، وكذلك المشاريع المستقبلية، إلى القطاع الخاص، من خلال قواعد ولوائح مناسبة تحمي مصالح المُستهلكين ودافعي الضرائب والمُستثمرين. أن التخلي عن هذه الفئات من المشاريع للقطاع الخاص، سوف يخلق المزيد من فُرص العمل خارج القطاع العام.
  • القضاء على الفساد. بالترافق مع أية أزمة مالية، فأن الفساد يُقلل بشكل ملحوظ من نجاح أي محاولات لتوحيد الميزانيات. إذ يؤثر الفساد على جميع قطاعات حكومة إقليم كردستان، من الأعلى إلى الأسفل، ويُضعف ليس فقط اقتصاد إقليم كوردستان، ولكن يُساهم أيضا في عدم الاستقرار السياسي. وهكذا، للحصول على اقتصادٍ في المسار الصحيح، يجب على صُناع القرار السياسي وضع مسألة مُكافحة الفساد على رأس الأولويات. الحكم الرشيد وسيادة القانون والشفافية، شرطان أساسيان لضمان النجاح في أي اقتصاد.

في الختام، فأن تصميم وصياغة وتنفيذ خطة اقتصادية استراتيجية للتخفيف من الوضع الراهن، وتجنب الأزمات الاقتصادية والمالية المُستقبلية في إقليم كوردستان شيء قابل للتحقيق. حكومة إقليم كردستان يجب أن تُظهر الإرادة السياسية والعزم، الذي له أهمية قصوى بالنسبة لبلد في أزمته، وذلك للنظر في خيارات السياسات وتنفيذها وفقا لخطة شاملة.

Comments are closed.