Back

مغامرة الصدريين: خطوة تحولیة حتى لو لم تنجح

دفع مقتدى الصدر العراق إلى محطة جديدة في المرحلة الانتقالية في البلاد. ومرة أخرى، تحدى نظام الحكم بأكمله، وكشف عن نقاط ضعفه الهيكلية الرئيسية، وبذلك قاد الديناميات السياسية إلى طريق مسدود جديد. في هذه العملية، أظهر أنصار التيار الصدري النظام الديمقراطي الحالي علی حقیقتە المشوهة وباشروا بإهانة المؤسسة التشریعیة للدولة، وأثبتوا أن العراق غير قابل للحكم بموجب “النظام” القائم.

لقد وضعت الديناميكيات السياسية والأمنية الطاحنة في الشرق الأوسط وداخل العراق البلاد على مسار تنازلي لما يقرب من عقدين من الزمن، ولكن العراق وصل الآن إلى معلم آخر ونقطة أخرى لا رجعة فيها. لم يعد الدستور العراقي لسنة 2005 يستحق حبره، ولم يعد مجلس النواب يستحق اسمه، والسلطتان التنفيذية والقضائية ليستا أكثر من أدوات بدل أن تكونا مصادر للقوة والسلطة. فالإنحدار المظطرد قد بدأ من هنا، حتى لو تم التوصل إلى حل وسط بين الأطراف المتناحرة. وإذا ترك واقع العراق لحالە، فسوف يفشل في النهایة، إن لم يكن قد فشل بالفعل.

التيار الصدري في طريق مسدود

اشتهر الصدر بطموحه في أن يصبح قائد العراق والزعيم الذي لا نظیر له. لقد عمل بجد لمدة 18 عاما لتحقيق أغلبية برلمانية واضحة، وهو ما فعله في الانتخابات الأخيرة. لكن منذ ذلك الحين، اتخذ سلسلة من القرارات التي أثبتت أنها أخطاء استراتيجية في التقدير. وينظر منافسوه إلى خططه المفرطة في الطموح على أنها تهديدات استراتيجية. فهو لا يخفي نواياه لاستخدام الدعم الشعبي لتولي زمام الأمور التشريعية والتنفيذية، ولاحقا القضائية. وبعبارة أخرى، لكي یصبح صاحب السلطة العلیا للعراق وإحداث تغيير جذري في نظام الحكم في البلاد والقضاء على منافسيه التاريخيين.

ولتحقيق هذه الأهداف، أقام التیار الصدري تحالفا قويا مع تلك الأحزاب السنية والكردية التي فازت بمقاعد الأغلبية في مجلس النواب. وعلى الرغم من بذل الجهود، وصل التیار إلى طريق مسدود، حيث واجهوا إختیارا صعبا بین المساومة مع منافسيهم أو أن يصبحوا معارضین. في كلتا الحالتين، يمكن للمرء أن يجادل بأنه كان بإمكانهم تحقيق الكثير. لكن بدلا من ذلك، اختاروا الخروج من نظام الحكم بأكمله ورفضه.

جبل صعب التسلق

يواجه الصدريون الآن “نظامین” معقدين وساحقین غير متحركين، الذین سيهزمان التیار عاجلا أم آجلا. الأول هو النظام السياسي والأمني الداخلي الذي يحكم العراق. ويشمل ذلك دستور عام 2005، ومؤسسات الدولة، والقوى السياسية المتفرقة التي لا يمكن التوفيق بينها، وعدد كبير من الجهات الفاعلة المسلحة الحكومية وغير الحكومية. لا يمكن لأي حزب بمفرده أن يقود التغيير ويلغي الدستور ويسيطر على مؤسسات الدولة بمفرده. لقد ولت تلك الأيام. عندما يتعلق الأمر بمراجعة دستور عام 2005 أو إعادة توزيع السلطة، لا توجد ثقة أو اتفاق متبادل بين أي حزبين سياسيين في العراق، حتى داخل أعضاء الائتلاف الواحد. لن يوافق الكورد أبدا على تغيير متسرع وغير مدروس للدستور، والذي قادوه هم والشيعة إلى تبنيه بنجاح.

أما “النظام” الثاني فهو نظام العالم الشيعي الذي له رأي رئيسي في اتجاه السلطة في العراق، والذي يضم الجهات الفاعلة السياسية والعامة الشيعية العراقية، مرجعیات النجف والقم ودولة إيران وشيعة لبنان وشیعة العالم أجمع. لقد كافح هذا “العالم الشیعي” لمدة خمسة قرون للاستيلاء على السلطة في إيران والعراق وتعزيزها. وبالتالي، لن يسمح لمجموعة مغامرة بإضعاف قبضتها أو تعريض حكمها للخطر في أي من هذین البلدین.

الصدريين معروفین في شجاعتهم وثقتهم بالنفس في اتخاذ القرار والشروع بمبادرات مبدعة، تبدوا وكانها مغامرات. ومع ذلك، فمن المعروف أيضا أن قراراتهم مزاجية وشعبوية ومفرطة في رد الفعل. وهذا انعكاس لأوركسترا مؤلفة من رجل واحد. وحسب اعتراف قادة الصف الثاني من التيار الصدري، غالبا ما تتسبب قرارات التیار في إلحاق أضرار جسيمة بأنفسهم وبشرعية مؤسسات الدولة العراقية. وفي خطوتهم الأخيرة، رفض التیار الدستور المعتمد ديمقراطيا ولم يحترموا مجلس النواب الذي هو طريقهم الوحيد للعودة إلى الشرعية. وستتطلب مطالبهم، بالتعجيل بمراجعة الدستور أو إجراء انتخابات جديدة، إعادة تنشيط مجلس النواب الذي خرجوا منه الآن ورفضوه. بالنسبة لهم، يشبه الأمر ابتلاع شفرة حلاقة (بلاع الموس)، فإن أي تحرك لأعلى أو لأسفل سيكون ضارا أو محرجا بنفس القدر بالنسبة لهم.

فشل المنافسين

السر وراء إصرار الصدريين على مسارهم يتعلق إلى حد كبير بالفشل الجماعي للجهات الفاعلة الوطنية والدولية الأخرى في التحرك. ويفتقر المنافسون اللدودون للصدريين إلى القيادة وأتسموا افتقدوا الرؤی حول كيفية إدارة تحديات ما بعد الانتخابات. لقد نجحوا في عرقلة طريق الصدريين لتشكيل حكومة جديدة، لكنهم فشلوا أيضا في الإسراع في تشكيل حكومة توافقية بعد أن ترك الصدريون فراغا. فشل الإطار التنسیقي ليس فقط في التواصل مع الصدر نفسه، ولكن أيضا مع شركائه السنة والأكراد في الائتلاف وجذبهم إلى صفوفهم.

لقد كانت إيران هادئة وصبورة، واثقة من أنه يمكن احتواء الصدريين في نهاية المطاف. ومن المعروف أنهم يعتبرون بعض سياسات الصدريين تهديدات استراتيجية لأمنهم القومي. إنهم يعتقدون أن رؤية الصدريين للحكومة وجهودهم المستمرة من شأنها أن تقسم المجتمع الشيعي العراقي، الذي (حسب تصورهم) لا يمكن إلا أن يخدم مصالح إسرائيل وعرب الخليج والولايات المتحدة. لقد هیمن الإيرانيون علی العراق لأكثر من عقد ونصف. من المنطق أن يروا أن عراقا مستقرا ومزدهرا تحت نفوذهم سيكون بمثابة نموذج جيد لما يمكن أن تفعله إيران لحلفائها. لكن بدلا من ذلك، ساهم الإیرانیون في تقويض وإضعاف مؤسسات الدولة العراقية، ولعبوا دورهم في تفتيت الأحزاب الشيعية إلى قوی سیاسیة أصغر حجما ومجامیع مسلحة حكومیة و غیر حكومیة. وفي هذه العملية، فشل الإیرانیون في إدارة السياسة العراقية أو وقف انزلاقها إلى الفوضى.

إذعان المؤيدين

على الرغم من حقيقة أن الصدريين قد شلوا الآن مجلس النواب وسخروا منه، إلا أن معظم الأحزاب العراقية غير الشيعية أو أعضاء مجلس النواب تسامحوا مع هذه الخطوة، ناهيك عن إدانتها. لقد دعوا فقط إلى الحوار، معتقدين أنهم بذلك لن ينحازوا إلى أي طرف. ومما زاد الطين بلة، جمد رئيس مجلس النواب أنشطة المؤسسة التشریعیة، بدلا من التعبير عن غضبه المطلق.

وعلى النقيض من المتظاهرین المؤیدین للرئیس الأمریكي السابق، دونالد ترامب، الذين اقتحموا مبنى الكونكرس في أوائل العام الماضي، رضخت الولايات المتحدة وبقية شركاء التحالف الدولي لاحتلال الصدريين لمجلس النواب وفشلوا في انتقاد هذه الخطوة. لطالما استثمر المجتمع الدولي، الغرب وعرب الخليج على وجه الخصوص، في تعزيز مؤسسات الدولة العراقية لجعل البلاد أكثر استقرارا وأفضل حكما. لقد عارضوا منذ فترة طويلة نفوذ إيران في العراق ودعمها لحلفائها داخل الإطار التنسیقي أو وكلائها، بما في ذلك الجهات الفاعلة المسلحة الغیر حكومیة. لقد فضل الغرب وعرب الخليج، ودعموا ضمنيا، خطط الصدر لمواجهة الإطار التنسیقي على أمل أن تمكن العراق في نهاية المطاف من الوقوف في وجه إيران.

الحلول والنتائج

ومن المحتم أن تنتهي الأزمة الحالية، بالعنف أو بدونه. ويجري تجنب العنف والحرب بين الشيعة، ولكن من السهل إشعالها إذا سمح للصراع بالتصاعد. وبطريقة أو بأخرى، سيتعين على الصدريين الموافقة على تقديم تنازلات وتبني نفس النظام السياسي القديم للمضي قدما نحو حل. على سبيل المثال، يمكنهم استعادة مقاعدهم ال 73 في مجلس النواب (حيث توجد إرادة، توجد طريقة) أو إبرام صفقة سياسية حيث يتفقون على خارطة طريق جديدة لإجراء انتخابات مبكرة أخرى أو حتى مراجعة الدستور. كل هذه الحلول ستشمل بلا شك إعادة تفعيل مجلس النواب المعلق الآن، والذي يجب أن يكون مصحوبا بعروض تحفظ ماء الوجه عند الصدریین.

وستلعب إيران في نهاية المطاف دورا رئيسيا في التوفيق بين جمیع الأطراف وإقناعها بالتوصل إلى حل وسط. لقد تحلوا بالصبر حتى الآن، ولكن عندما يحين الوقت، يكونون في وضع جيد لفرض التقدم. إيران مؤهلة للعب دور الوسيط، على الرغم من أنها منحازة في الصراع من خلال معارضة الصدر ودعمالإطار التنسیقي. لديهم العديد من الروافع السياسية والقضائية والمالية والأمنية داخل العراق لتهديد الأطراف العنيدة من كلا الجانبين. لديهم القدرة على إجبارالإطار التنسیقي على تقديم تنازلات، وتهميش بعض قادة الإطار التنسیقي والوعد بالتغيير أو تقديم الإغراءات للصدريين.

أما بالنسبة للصدريين، فقد أقدموا علی المقامرة بكل ما یملكون، مدركين جیدا بأنه من غير المرجح أن يفوزوا بشكل كامل. ومع ذلك، فقد غيروا العراق بالفعل إلى الأبد. ولا تزال عقليتهم الحالية قائمة على التصميم ورفض التفاوض، ولكن من المعروف أنهم سياسيون براغماتيون أيضا. لقد تنازلوا في الماضي، وتراجعوا وغيروا مسارهم عند الضرورة. هذا لا يعني أنهم سيتخلون عن طموحاتهم في الاستيلاء على نظام الحكم الذي هم على استعداد لدفع ثمنه، ولكن هذا للمستقبل، وليس في هذه الجولة.

Comments are closed.