نظّمت مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث (ميري) مائدة مستديرة تناولت ملامح السياسة الألمانية تجاه العراق، بهدف تسليط الضوء على تطوّر علاقات التعاون بين الجانبين. شاركت في النقاش السفيرة الألمانية في العراق، كريستيان هومان، ونائب القنصل العام الألماني في أربيل، دانيال دريشر، إلى جانب نخبة من الشخصيات البارزة في المجتمع المدني بإقليم كوردستان، ومسؤولين حكوميين، وخبراء في السياسات العامة، وأكاديميين. وتركزت المداولات حول رؤية ألمانيا للمسارات السياسية والأمنية والتنموية في العراق، إضافة إلى المصالح الاستراتيجية المشتركة وآفاق الشراكة المستقبلية.
في مستهل اللقاء أشار رئيس مؤسسة ميري، الدكتور دلاور علاء الدين “إلى أن ألمانيا يعتبر شريكًا موثوقًا ومؤثرًا في دعم الاستقرار داخل العراق”، إذ واصلت الحكومات الألمانية المتعاقبة الاستثمار في الإصلاح المؤسسي، وتعزيز التماسك المجتمعي، وتنشيط التنمية الاقتصادية على امتداد البلاد. وتجاوزت المساهمة الألمانية الأبعاد التقنية، لتعكس تضامنًا أخلاقيًا ورمزيًا، لاسيما من خلال دعم الأقليات، وعلى وجه الخصوص الأيزيديين. وفي الوقت الذي يثمّن فيه العراقيون الدور الألماني، لكنهم يدركون أيضًا حجم التحديات التي تواجه برلين نتيجة التداعيات المرتبطة بالعراق، من بينها قضايا الهجرة، والتهديدات الأمنية الإقليمية، والاختلالات التجارية، إلى جانب الضغوط الداخلية في ألمانيا والاتحاد الأوروبي، والتقلبات الجيوسياسية المتأتية عن التطورات الأمريكية في الشرق الأوسط وأوروبا.
وخلال مداخلتها، أكدت السفيرة هومان أهمية الحوار المفتوح والمباشر مع أصحاب المصلحة المحليين لفهم تعقيدات المشهد السياسي في العراق وصياغة سياسات خارجية فاعلة. وشددت على أن الأخبار والتقارير الإعلامية وحدها لا تكفي لفهم الواقع العراقي، معتبرة أن السياسات الألمانية تُبنى إلى حدٍّ كبير على ما تنقله تجارب الشركاء المحليين. واستحضرت في حديثها التجربة الألمانية المريرة مع النازية والهولوكوست، لتؤكد أن مواجهة الماضي بشجاعة تمثل شرطًا أساسيًا للمصالحة الوطنية، ومبدأً ناظمًا للسياسة الخارجية الألمانية.
من هذا المنطلق، تحدثت السفيرة أيضًا عن التحديات التي واجهها العراق، من حروب وصراعات داخلية ونزوح جماعي، مشيرة إلى عمق الصدمة التي تعرض لها المجتمع العراقي، وصعوبة استعادة الثقة وإعادة بناء المؤسسات وسبل العيش. وأوضحت أن ألمانيا، رغم قدرتها على نقل خبراتها الإيجابية والسلبية، لا تستطيع أن ترسم خارطة الطريق للعراق، لأن هذا الدور يجب أن تتولاه الدولة العراقية نفسها. فالمجتمع الدولي يمكنه أن يساند ويشارك، لكنه لا يستطيع أن يقود. وتابعت هومان أن أي حلول مستوردة يجب أن تخضع للتكييف بما يتماشى مع واقع العراق واحتياجات شعبه.
وفيما يخص مستقبل السياسة الألمانية، أكدت السفيرة أن المبادئ الأساسية، مثل الديمقراطية، وسيادة القانون، والحريات، ستظل تمثل ركائز السياسة الخارجية الألمانية، رغم أي تغيّرات قد تطرأ على المستوى الداخلي، خاصة مع اقتراب موعد تشكيل الحكومة في مايو. وأوضحت أن ألمانيا لا تتبنى عادة تغييرات جذرية في سياساتها، وأن التزامها بدعم الاستقرار وحقوق الإنسان سيبقى عنصرًا ثابتًا في انخراطها الإقليمي.
وقد انتقلت المناقشات لاحقًا إلى الجزء المغلق من الندوة، والذي جرى وفقًا لقواعد “تشاتام هاوس”، بما يضمن خصوصية المشاركين ويمنع نسب التصريحات إليهم بشكل مباشر.
من أبرز المواضيع التي تم التطرق إليها كان التعليم والتدريب المهني، حيث أشار الحضور إلى أن التركيبة السكانية في العراق تشكل ميزة عددية، لكنها لا تُترجم بالضرورة إلى كفاءات وجودة مهنية. فقد أدى غياب برامج التدريب المهني إلى عجز في توفير مهارات أساسية لقطاعات حيوية في الاقتصاد المحلي. وتم التأكيد على أن العراق بحاجة إلى بلورة رؤيته الاقتصادية وتحديد أولوياته التنموية بوضوح، حتى يتمكن الشركاء الدوليون من تنسيق دعمهم على نحو فعّال. وقد طُرح التعليم المهني كنموذج تعاون واعد، يُستوحى من التجربة الألمانية، شريطة أن تلتزم الحكومة العراقية بتحديد مسار واضح لتوجهها الاقتصادي.
ورغم الزخم الإيجابي في العلاقات، كشفت النقاشات عن جملة من العوائق التي لا تزال تحول دون تعميق الانخراط الاقتصادي الألماني في العراق. وتصدّرت هذه التحديات ندرة اليد العاملة الماهرة، وتعقيد البيئة التنظيمية وتقلبها، وضعف القطاع المصرفي، إلى جانب الغموض القانوني المرتبط بترخيص الأنشطة التجارية. كما شكّل نظام الازدواج الضريبي المفروض على السلع الواردة عبر إقليم كردستان أحد أبرز العقبات التي تعيق الاستثمار الأجنبي وتقلّص جاذبية السوق العراقية. وعلى الرغم من الاعتراف بالإمكانات الاقتصادية الكبيرة للعراق، لا تزال البيئة الاستثمارية تفتقر إلى المقومات التي تمكّنها من استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية.
أما في الجانب الأمني، فأكدت السفيرة هومان أن ألمانيا تواصل مساهمتها من خلال قوات منتشرة ضمن إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو) وكذلك ضمن عملية “العزم الصلب” التي تقودها الولايات المتحدة. إن أي تحوّل جذري في السياسة الأميركية قد ينعكس على طبيعة التواجد الألماني في العراق. وتعمل الحكومة الألمانية على تطوير أطر تعاون ثنائية مع كلٍّ من بغداد وأربيل، بهدف ضمان استمرارية برامج التدريب والدعم المقدم إلى قوات البيشمركة والقوات الاتحادية العراقية.
وفيما يتعلّق بحقوق الأقليات، سلّطت المداولات الضوء على هشاشة أوضاع النازحين داخلياً، وعلى تقصير الحكومات العراقية المتعاقبة في تلبية احتياجاتهم على نحو كافٍ. وفي المقابل، شددت السفيرة على أهمية أن تتحدث الأقليات بصوت موحد سواء في بغداد أو أربيل، مؤكدة أن الانقسامات في خطاب المطالبة تضعف المواقف وتقلل من فاعلية الدعم الدولي. وبيّنت أن بإمكان الشركاء المحليين والدوليين الإسهام في تهيئة الظروف لعودة آمنة وكريمة للنازحين، لا سيما إلى مناطق مثل سنجار، إلا أن المسؤولية الرئيسية تبقى على عاتق الدولة العراقية، فيما يتعلق بضمان الأمن، وتوفير فرص العمل، والخدمات الأساسية.
واختُتم اللقاء بتأكيد مشترك على أن ألمانيا ستظل شريكاً موثوقاً وداعماً لمسيرة العراق، لكنها لا تستطيع أن تقود هذا المسار نيابة عنه. فالدفع الحقيقي نحو التغيير يجب أن ينبع من الداخل، وهو ما يتطلب من العراق أن يتحمل مسؤولية أكبر في رسم مستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ومع أن البلاد قد أحرزت تقدماً ملحوظاً، إلا أن طريق التحول لا يزال يتطلب خطوات حاسمة. وتؤمن ألمانيا، كما شددت السفيرة هومان، أن الشراكة وليس الإملاء هي الطريق الأمثل لمرافقة العراق في هذه المرحلة المحورية من تاريخه.